النسخ هو «رفع حكم شرعى سابق، بدليل شرعى متأخر عنه فى زمن نزول الوحى، ولا يكون إلا من عند الله تعالى، ولا بد فيه من النقل الصريح عن النبى (صلى الله عليه وسلم)»، هذا هو التعريف المعتمد الرسمى لدى المؤسسة الدينية، لكن هناك عدة أسئلة يثيرها هذا التعريف ونطرحها من منطلق التفكير الحداثى ومن منطلق المنطق الإنسانى أيضاً: هل النسخ هو إحصاء آيات بأرقام وإشارات تم تجاوزها بالنسخ سواء حكماً أو تلاوة، أم هو منهج وآلية تفكير تثبت أن التغيير سنة الكون؟، وهل النسخ مرتبط بتلك الفترة الزمنية التى كان يهبط فيها الوحى فقط والمرتبطة بحياة النبى، أم أن الزمن نفسه بما يحمله من بصمات تغيير هو أيضاً ناسخ؟، هل بجانب النسخ الإلهى الربانى هناك نسخ زمانى إنسانى اقتبس فكرته من الإشارة الإلهية نفسها التى تقول فى طياتها إن هذا النص ليس ألواحاً مسبقة عليك تنفيذها بالحرف إنما هو نتيجة تفاعل مع الواقع وإذا تغير الواقع يقوم الرب بالنسخ والتغيير والحذف والإضافة فى تلك الحقبة الزمنية؟، لكن هل هذا يعنى أن نترجمه على أنه محصور بتلك الحقبة والفترة فقط، أم أن معناه ببساطة وكأن الله يقول لنا تسلموا هذه الآلية الفكرية النسخية أمانة لدى عقولكم لتنفذوا بها الـupdate الحياتى الإنسانى؟، لأننا ببساطة إذا اقتنعنا بأن النسخ هو حصرى لتلك الفترة فقط فهذا اعتراف منا بأن الزمن سيتجمد وسيتوقف ويتحنط بعدها إلى يوم القيامة، وستصبح كل الأيام التالية «قص ولزق كوبى وبيست وبلاى باك» من الأيام السابقة حرفياً، ولو كان ذلك صحيحاً لظللنا فى الخيام، نركب الدواب حتى هذه اللحظة، وليست تلك مبالغة فهذه هى أفكار تنظيمات متطرفة مثل التكفير والهجرة ورأينا منهم أشخاصاً كانوا يصرون على الذهاب إلى الجامعة بالجمل! التعريف الرسمى المعتمد للنسخ هو تعريف بشرى وليس تعريفاً إلهياً، وهذا الفزع والرعب من إعمال العقل فى النص ناتج عن تقديس هذا التعريف البشرى الذى زرعوه فينا حتى تكتمل السيطرة، هل انقطاع الوحى يعنى انقطاع النسخ؟، هل من الممكن اعتبار النسخ تجريباً علمياً متفاعلاً مع الواقع نستفيد من لمحته ونواته، فالعالم مطالب إذا لم تلائم نتائج تجربته المقدمات والمشاهدات والإحصاءات، هو مطالب بالانتقال إلى فرضية أخرى أكثر ملاءمة؟ نحن ننزع القشرة الخارجية للتعريف لنرى النواة، نحن ننزل إلى ما تحت السطح لنكتشف المنجم، كلمة نسخ هى مرادف تقدم، لكن التعريف جعل التقدم تجمداً أو بالأصح تقدماً إلى مسافة معينة، فصار المسلمون وكأنهم مطالبون بقطع سباق ماراثون مسافته اثنان وأربعون كيلومتراً والفوز به بشرط تطبيق قوانين تلزمهم بقواعد سباق المائة متر!، فكيف سأجرى مائة متر لأفوز بالماراثون؟!! ما لنا لا نفهم ببساطة وهدوء أن كل هذا النسخ قد حدث خلال 23 سنة فماذا عن فترة الأربعة عشر قرناً التالية؟، هل نحذفها من أجندة الزمن؟، هل نحرق أوراقها؟، هل لم يحدث فيها ما يستدعى النسخ الزمانى؟، الله قد أرسل رسالة بأن هناك ما يتلى ولا تنفذ أحكامه، فهل تدبرنا تلك الرسالة؟، والتدبر هنا لا يحتاج إلى رجال دين منهجهم محصور ومحاصر فى مجرد تقليب كتب القدماء، لكنه يحتاج إلى عقول جسورة تفكر خارج الصندوق المغلق والأسوار العالية ومن الممكن أن يكون من بينهم رجال دين بشرط أن يكونوا قد فهموا المغزى والمعنى ودربوا عقولهم على الطيران خارج السرب، هناك بجانب الرسالة الربانية الرسالة العمرية فى مسألة المؤلفة قلوبهم وهى الآية الواضحة الصريحة بألفاظها والتى لا لبس فيها بمعانيها، لكن الفاروق عمر كان ما زال خارج منظومة الفقه المغلقة المصمتة التى تحولت بالتدريج إلى مؤسسة لها سدنتها وحراسها والمستفيدون منها، وقد لمس هذا المعنى المفكر الراحل حسين أحمد أمين حين قارن بين القوانين الوضعية والشرائع السماوية وفسر سبب الجمود الفكرى الذى نعيشه عندما قال فى كتابه «حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية» ما يلى: «الأصل فى القوانين أنها تسن وتتطور وتنسخ ويستبدل بها غيرها، على ضوء الاحتياجات المتطورة، وتغير العلاقات وأساليب العيش والإنتاج فى المجتمع الذى تنظمه وتحكمه، وأنها بالتالى تختلف باختلاف الزمان والمكان، هذا عن القوانين الوضعية»، إذن كما يقول حسين أمين أن روح القوانين هو النسخ وبدون أى غضاضة أو غضب أو دفاع عن ثوابت ما هو معلوم من القانون الوضعى بالضرورة، لكن ماذا عن فهم الشريعة؟، يقول حسين أمين: «أما الشرائع السماوية فإن الفقهاء يذهبون إلى أنه لا دخل للاعتبارات التاريخية فيها، وأن الأصل فيها أنها صالحة لكل زمان ومكان، فالشريعة التى تصلح لتركيا تصلح للنيجر وبنجلاديش، والتى تصلح لمصر فى القرن السابع الميلادى تصلح لها فى القرن العشرين، فهى إنما تعبر عن الإرادة الإلهية التى تحكم المجتمعات البشرية، ولا تأثير لهذه المجتمعات فيها، ومن ثم فإنه لا مجال للقول بضرورة تطوير الشريعة على ضوء التطور التاريخى للمجتمع، ولا دور للفقيه فى إرساء قواعد جديدة أو مواءمة الشريعة مع ظروف هذا المجتمع أو ذاك، وإنما دوره مقصور على اكتشاف كنه الإرادة الإلهية الثابتة غير المتغيرة»، والسؤال هل أحكام القرآن والسنة لا تنسخ لأنها شرعت أحكاماً تفصيلية محددة؟، يجيب حسين أمين، فى نفس الكتاب، بقوله: «إن نسبة الأحكام الشرعية المنصوص عليها فى القرآن الكريم، بل وحتى فى الأحاديث النبوية المتفق على صحتها، هى نسبة ضئيلة جداً إلى الأحكام الواردة فى كتب الفقه، ذلك أنه ليس فى القرآن غير نحو ثمانين آية تتعلق بموضوعات قانونية، كحد السرقة، وحد الزنا، وأحكام الوصية والمواريث، ومعظم هذه الآيات الثمانين اكتفى بإيراد مبادئ عامة تسمح بتفسيرات وتطبيقات شتى يمكن الملاءمة بينها وبين احتياجات كل عصر وظروفه»، ويؤكد «أمين» فى نهاية تحليله أنه «ليس صحيحاً القول بأن القرآن والسنة قد شرعا أحكاماً تفصيلية محددة لكل مظاهر حياة المسلمين، والأقرب إلى الصواب القول بأن العمل قد استمر فى مجالات عديدة، أثناء حياة النبى، بالعرف الذى كان سائداً فى الجاهلية». إنه العرف الذى ذكره حسين أمين، العرف الذى كان على صراع وتفاعل مع الشرع، فمثلاً العرف الطبقى فى العراق صاحب العدوى الفارسية حينذاك جعل المذهب الحنفى يؤكد على شرط الكفاءة الذى تجاهله الإمام مالك ابن مجتمع المدينة، وهو نفس العرف الذى أباح حق الملكية للرق فى مذهب مالك ومنعه عنهم وأنكره عليهم المذهب الحنفى، تلك الأمثلة وغيرها من التخريجات الفقهية ليست نتاج مزاج الفقيه أو هبطت عليه وحياً، ليست معادلات رياضية باردة منبتة الجذور بالواقع المحيط حولها، الفقيه ابن بيئته ومكانه وزمانه وطبقته وحتى تكوينه البدنى والنفسى، هل آية السيف التى فيها «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم»، هل هى مناسبة لزمن الأسلحة النووية والكيميائية والصواريخ والمدافع... الخ، فمهما كان السيف بتاراً لن يؤدى إلى ملايين من الضحايا، لكن تلك الأسلحة المعاصرة فهى بالفعل دمار شامل، هل نستطيع أن نواجه العالم الآن بعقوبات كانت ملائمة لأفكار زمانها وعصرها، كانت تقوم على الانتقام والتشفى مثل الجلد والصلب والقطع... الخ، عقوبات بنت أفكار زمانها وبيئتها، ويطبق عليها النسخ الزمانى، حتى من يقولون بالبلدى «كله كوم والزنا كوم تانى.. لا تغيير ولا تبديل»، عليهم أن يفكروا بهدوء ويجيبوا عن سؤال وماذا عن زواج المتعة؟، ماذا تعتبرونه الآن؟، وهل تقبلونه الآن؟، وماذا عن الجدل حوله؟ المفروض أن أنهى هذا الفصل بإجابة ولكن السؤال المحرض على التفكير أهم من الإجابة المحرضة على الكسل.