قالوا عن الحضن «أكثر الأماكن الضيقة اتساعاً ورحابة»، فهمناه على أنه اللحم فى اللحم، وهو فى الحقيقة امتزاج الروح فى الروح، أن تتسرب روحك كعبير الياسمين ودخان البخور وعبق العطر وشعاع الشمس إلى روح رفيقة الدرب فأنت حتماً تغزل السعادة وتنسج الحب بخيط البهجة والأمل، نحن مرعوبون من الحميمية، لدينا فوبيا من أن يكسر صدفتنا شخص آخر غريب أو يفك خيوط شرنقتنا حب صادق مختلف، أنانيتنا هى ماكينة إنتاج عزلتنا وبالتالى عدوانيتنا، نكبت كل مشاعرنا الجميلة على مذبح المجتمع، قرباناً لزيفه ونفاقه، يرتدى كل منا قناعاً ليخفى ملامحه، قناعاً ليس على مقاس روحك لكنه على مقاس كتالوجهم، وعندما تحب، عليك أن تحب طبقاً للمواصفات القياسية لهم وليس لك، نموذجهم لا نموذجك، وسواسهم هم وليس حلمك أنت، حتى عندما تحتضن عليك أن تحتضن أكاذيبهم الكريهة، الحضن أجمل اختراع بشرى تعامل مع الجلد على أنه عمق لا غطاء، من يفهم أبجدية الحضن يستطيع أن يفهم مقولة الشاعر «أعمق ما فى الإنسان جلده»، الحضن هو اللغة الوحيدة التى لا تحتاج إلى ترجمة فورية، والترمومتر الوحيد الذى نقيس به درجة حرارة الكذب، اكذب كما تشاء على حبيبتك من الممكن أن تغفر لك لكن حذارِ أن تحتضنها وأنت فى حالة كذب، سرعان ما تكشفك وسرعان ما تنفضح، الحضن ليس فيه صادق وكاذب، من شروط خلقه وتصميمه وإبداعه الصدق، إما أن يكون حضناً أو لا يكون، فى الصقيع يكون الحضن دفئاً، وفى الهجير يكون هروباً، وفى كل المناخات وأحوال الطقس هو ملجأ وسكن ودار أبدية بديلة وسكن يبث السكينة، الحضن هو الاستثناء الوحيد لقوانين المغناطيسية، قطبان متشابهان يتجاذبان، نشوة تحطيم قوانين المغناطيسية الروتينية فى أن تكون نفسك ولو للحظة واحدة، هم صبوك فى قالب إلى أن تشيب وتدفن فيصبح القبر هو القالب الجديد، ولو امتلكت القدرة على السؤال وأنت فى الكفن، هل حققت ما أتمناه يوماً ما؟، ما أتمناه أنا لا أنتم، هل احتضنت من أحب فعلاً طوال تلك الرحلة المنهكة التى مثلت فيها دورى ولم أتمثل فيها نفسى؟!، لو امتلكت قدرة اختيار غدة واحدة للعمل بعد الموت، أعتقد أن الغدة الوحيدة التى ستعمل فى جثث الراحلين ستكون غدة الدمع والألم، نمر على تلك الحياة بعمر محدد وأحلام لا حد لها، يتسرب العمر ويظل الحلم لا يبرح مكانه، وتظل ذراعاك مفتوحتين فى انتظار الحضن الذى لا يأتى.