هل نقطع سيقان الوسع لكى تناسب مقاس سرير التكليف؟! «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ليست مجرد آية، ولكنها منطق تفكير ومنهج تعامل وفلسفة تناول. آية غابت عن مجتمعاتنا بفعل فاعل، صادر تفسيرها وتأويلها وتطبيقها والإلحاح عليها رجال دين أدركوا أن تفسيرها الإنسانى سينزع عنهم رداء القداسة، ويسحب منهم توكيل الجنة الحصرى، وشبق تحريك الناس بالريموت كنترول الفقهى سابق التجهيز والذى يحتاج فقط لوضعه فى «ميكروويف» المصلحة لكى يتناوله الأتباع المغيبون. رفعوا شعار «ما كان حلالاً أو حراماً وقت النبى سيظل نفسه حلالاً أو حراماً حتى قيام الساعة». ذكرنا من قبل أن الحداثة تتحدث بلغة الحقوق لا التكليفات. والمدهش أنه حتى التكليفات التى يصدّرونها إلينا على أنها أوامر مصمتة لا تقبل أى تعديل أو تغيير، يقولون لنا باللغة الدارجة «هى كده» و«خدها زى ما هى» و«لا تجادل يا أخى ده كلام ربنا». وهل المعنى المتضمن المسكوت عنه فى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ليس من ضمن الكلام الربانى عند هؤلاء؟! التكليف أوامر ونواهٍ، افعل ولا تفعل، الزم هذه واترك تلك فهذا حتمى، هذا ما وصل إلينا باختصار من معنى، أما الوسع فهو طاقتى كفرد أو كمجتمع على تنفيذ هذا التكليف. السؤال: هل هذا التكليف قالب من الرصاص لا يتغير مقاسه أو مرونته وعلى الوسع أن يكيف نفسه على مقاس هذا القالب؟ أم أن فقهاءنا قد نفذوا ما جاء فى الأسطورة اليونانية عن «بروقرسطس»، هذا الرجل الذى كان يمتلك فندقاً على طريق السفر، كان كل سرير مصنوعاً من الحديد وكل الأسرَّة بنفس المقاس، وعندما كان ينزل لديه مسافر أطول من مقاس السرير، كان صاحب الفندق يأتى بالمنشار ليبتر ساقى المسافر لكى تصبحا على مقاس السرير؟! لم يفكر بروقرسطس أبداً أن يطور السرير نفسه أو يجعله مرناً على عجَل يطول أو يقصر، أو يأتى بأسرَّة على كل المقاسات، تفكيره الأحادى الاتجاه السائر على قضيب القطار جعله يفضل جز السيقان وحز الأدمغة على تغيير السرير! هكذا رجال ديننا الأفاضل قطعوا دماغ وساق الوسع لكى يناسب سرير التكليف، ففى البدء كان التكليف بالنسبة لهم، وليذهب إلى الجحيم الوسع والطاقة والإمكانية والمواءمة وكل تلك المعانى الإنسانية، فأنت مجرد روبوت أو -آسف للتعبير- حذاء شبيه بالحذاء الذى كانت ترتديه الطفلة اليابانية قديماً لكى تحتفظ بقدمها الطفولية مقاس «28»!! لم يتم تحويل المؤشر والبوصلة بحيث يكون التكليف على قدر الوسع. حاول البعض تحويل المؤشر ونوقشت قضية التكليف والوسع بتفاسير مستنيرة من عدد من المفكرين، منهم جمال البنا ومحمد شحرور وغيرهما، لكن محاولاتهم كانت همساً ضاع فى ضجيج زحام الترهيب الفقهى والفزاعة التراثية. ما زلت أعتبر المفكر والباحث السودانى طه إبراهيم -برغم عدم شهرته- فى كتاباته المهمة فى عدد من المواقع حول تلك القضية مرجعاً مهماً لكل من يريد شرح تلك المعضلة الإسلامية التى عرقلت الفكر عندنا كثيراً، وما زالت تعرقل حتى تلك اللحظة. قسّم طه إبراهيم «الوسع» إلى جسمانى وعقلى وحضارى واجتماعى وسياسى واقتصادى. الوسع الجسمانى معناه إذا كانت طاقة جسدك لا تسعفك بالتكليف فإنه يسقط عنك، فهناك آيات ترفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض والضعفاء... إلخ، والوسع العقلى هو الذى يقتضى رفع التكليف عمن لا يدرك طبيعة هذا التكليف، وهناك حوار شهير ما بين الرسول وعائشة يكشف عن أن ما أمر به القرآن فى ذلك الزمان لا يعبر إلا عن مستوى طاقة الناس وإدراكهم حينذاك، عندما قال الرسول لها: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَاباً شَرْقِياً، وَبَاباً غَرْبِياً، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قُرَيْشاً اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ»، وكما يستخلص طه إبراهيم من دلالات هذا الحديث، بدون الدخول فى مدى صحته، فالمهم أن الوجدان تقبّله حينذاك، الدلالة هى أن «الفعل والتكليف لا يسن لأنه يعبّر عن مطلق الأمر، وإنما يجىء بمقدار فهم الناس وإدراكهم ودرجة وعيهم، فعرب الجاهلية ما كانوا سيفهمون وما كانوا سيطيقون إجراءات هدم الكعبة، فهى قبلتهم لآلاف السنين». أما الوسع الحضارى والإنسانى فنابع من درجة تطور المجتمع المحكومة بعوامل كثيرة مثل أحوال الزمان وموقع المكان ونوع البيئة... إلخ، والوسع حينذاك كان يسمح بمخاطبة العرب بتلك الآية: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ»، فالله يمن عليهم بأن مكنهم من صنع بيوتهم من الجلد الذى لا يشكل حملاً ثقيلاً عند التنقل والإقامة، لأن الوسع وقتها لا يحتمل المخاطبة بناطحات السحاب والموبايلات والإنترنت وسفن الفضاء... إلخ، وكما كان الخطاب القرآنى مناسباً للوسع الحضارى حينذاك فقد كانت التكاليف أيضاً، مثل قول القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»، فالبيع وقتها يعنى نشاطاً لا يتعدى التجارة أو الزراعة أو الرعى، ومن يعملون فى تلك المجالات لديهم «الوسع» الذى يمكّنهم من تلبية النداء وقتها. ويتساءل الباحث طه إبراهيم قائلاً: «تعالوا نفحص عما إذا كان الخطاب يمكن أن يكون موجهاً فى زماننا هذا إلى مراقبى الطائرات أو مراقبى المفاعلات الذرية». وأضم إلى من ذكرهم الباحث قائمة طويلة، على رأسها الجراح فى غرفة العمليات، وليس آخرها ضابط الشرطة فى الكمين. نأتى إلى الوسع الاجتماعى الذى يمثل لدى المسلمين معضلة كبرى لأنه مرتبط بمؤسسات لها قوانينها الداخلية والتى عندما تسقط أو تتبدل الحالة الاجتماعية أو المناخ الاجتماعى يقع رجال الدين فى حيص بيص، فعندما سقطت مؤسسة الرق والعبيد والسبايا والجوارى قبلوا على مضض لأن منظرهم سيصبح شاذاً عن العالم الذى لم يعد يقبل بتلك المؤسسة الاستعبادية وقوانينها المجحفة الظالمة. أما مؤسسة الزواج -وفى القلب منها المرأة وكل ما يتعلق بها- فقد صارت بالنسبة للشيوخ قضية حياة أو موت دونها خرط القتاد، من تعدد وطلاق وميراث وحقوق... إلخ. الآن لم يعد فى الوسع الاجتماعى قبول هذا الوضع المتدنى للمرأة وسلبها الكثير من حقوقها باسم الشرع، وكذلك الوسع السياسى الذى يتطلب قيام دولة لا تحتمل مزايدات وجدالات الحدود باسم تطبيق شرع الله فى دولة مدنية بينما هو تفسيرهم هم لهذا الشرع بغية مكاسب سياسية. والوسع الاقتصادى أهم أمثلته تكليف الزكاة التى لا تجب ما لم يتوفر للفرد نصابها. الفقهاء يريدون اختزال الوسع فى كلمة الرخصة التى دائماً ما يريدونها مؤقتة، فى مراوغة تستهدف الحفاظ على السلطة والسيطرة. الوسع أشمل وأعم وأرحب من هذا الاختزال. وفى النهاية نردد مع طه إبراهيم: «الأصل عندما نواجه أى تكليف يراد تطبيقه أن نتساءل عما إذا كان هذا التكليف بوسع الإنسان؟، فإذا اتضح أنه ليس بوسع الإنسان تنفيذه فإنه يتم تجاهله، هذا إذا لم يعلن عن سقوطه وزواله نهائياً، كما هو الأمر بالنسبة للتكاليف المتعلقة بالرقيق». بعد تلك الأسئلة هل من الممكن أن ننحت مصطلحاً هو بالنسبة إلينا طوق نجاة، وهو مصطلح النسخ الزمانى؟