عندما فتحت ملحق «الأهرام» ووجدت على صفحته الأولى اسم د.محمد المخزنجى، هذا المبدع النبيل والحكاء العبقرى، وجدتنى ألتقط الصفحة برفق كأننى أتعامل مع زهرة ياسمين ندية، غمرتنى لحظة انتشاء ومسَّتنى كهرباء سحر، فأن يعود «المخزنجى» لكتابة القصة بعد سلسلة مقالات سياسية وعلمية استغرقته كثيراً وعطشتنا أكثر إلى نهر إبداعه الحقيقى، القصة القصيرة، فهذا أعتبره يوم عيد، قصة «ضربة كوليرا» دون أدنى مبالغة من أجمل القصص التى قرأتها فى السنوات العشر الأخيرة، ليس على المستوى المصرى فحسب بل على المستوى العالمى، أترك قراءتها والحكم عليها لحضراتكم، ذلك لأفسح المساحة لقراءة «المخزنجى» نفسه، هذا الخجول الهادئ ذو الأعصاب العارية والصوت الخفيض والعين الحزينة الواسعة المغناطيسية التى تهضم أدق التفاصيل، إنسان حساس جداً، وغنى إنسانياً جداً جداً، وصاحب تجربة عريضة ومعقدة جداً جداً جداً، هو خليفة يوسف إدريس بامتياز، لكنه لم يرث اقتحام إدريس وبركانه العصبى الفوار، لكنه ورث عنه ولعه بالتفاصيل وقدرته الخارقة على الإمساك باللقطة واعتصارها حتى الثمالة، يهبط إلى عمق المنجم الإنسانى، ويرى بعداً فنياً فى أى شىء ولو حشرة، وشيئاً يستحق الحكى ولو نظرة طفل عابرة، «المخزنجى» عدة طبقات جيولوجية نفسية تثرى كل طبقة الطبقة التى تليها ولا تنحر منها، فهو الطبيب النابه الذى سبر أغوار النفس الإنسانية ما بين فترة الامتياز والنيابة ما بين ردهات المستشفى الذى تتصارع فيه أنات الموت وطعنات الحقد والغدر ووداع الرحيل مع شهقات الحياة وفحيح ونشوة وحميمية الحب وشبق الجسد، وتجربة الاتحاد السوفيتى بصقيعه وشمس ماركسيته الغاربة الآفلة وعمالقة أدبه وآلهة سرده، تولستوى، ديستوفسكى، وجوركى، وتشيكوف، كان الأخير هو النموذج، طبيب وقصاص أيضاً، وإذا كان تشيكوف هو نموذجه الروسى فقد توطدت علاقته مع نموذجه المصرى الذى استعاد روحه ونفحة إبداعه يوسف إدريس، طبقة جيولوجية أخرى كان لها فعل السحر فى إذكاء تجربته وإنضاج رؤيته حين جاب العالم رحالة فى مجلة «العربى» الكويتية فى أوج تألقها وازدهارها، فتحت صفحاتها له تجريب جميع الأشكال، وهذا مهم فى شخص كقطعة الكريستال التشيكية، كل وجه من وجوهها أكثر ألقاً وجمالاً، جرب كتابة أدب الرحلات وفن القصة والكتابة العلمية المبسطة، فكان فى كل مجال المبدع والألفة، محمد المخزنجى كنز إبداع ومنجم فن، وعدم تكريمه أو وجوده على الساحة الثقافية وشاشات التليفزيون وهيئات الثقافة يمثل جريمة تدل على مدى تردى الوضع الثقافى فى مصر، لو كان «المخزنجى» فى بلد آخر لأقاموا له تمثالاً، ولجعلوا من لقائه شحنة أسبوعية للشباب.. «المخزنجى» قيمة كبيرة نجهلها ولا يمكن تجاهلها، باقة ورد لك وقُبلة حب وعرفان على جبينك أيها الحكاء المدهش والصامت البليغ.