العلماء لا يمكن أن تنصفهم السلطة الدينية. أتحدّث عن العلماء الحقيقيين التجريبيين، وليس العلماء الحافظين المحافظين، علماء كتابة الهوامش والشروح والحواشى وحواشى الحواشى. وليس مطلوباً من هؤلاء العلماء أن يكونوا جيفارا أو جان دارك، ولا بد أن نعذرهم فى خوفهم على علمهم وعلى أرواحهم، فهم ليسوا بمحاربى الفايكنج، وليست لديهم دروع وحصون التتار، ومعظمهم حين اصطدم بالسلطة الدينية اعتذر وتراجع، وربما كتب ما يناقض نظريته أو اكتشافه. نحن مَن ننصف هؤلاء العلماء، الأجيال التالية حين تتضح الرؤية وينتهى غبار المعركة بينهم وبين رجال الدين، يستطيعون رد الاعتبار لهم، المستقبل هو الذى ينصفهم لأنهم يعملون على المستقبل، ورجال الدين يعملون لصالح الماضى، فلنلتمس العذر لعلماء خافوا وارتعشوا وفزعوا أمام سلطة الكهنة، فخوفهم مشروع، فالقهر مرعب، والألم مهين، والعذاب قاتل. كوبرنيكوس الذى جرح كبرياءنا وخدش النظرية القديمة، وهى أن الأرض هى مركز الكون، فأصبحنا معه مجرد كوكب ليست له أى مركزية أو تميز أو قداسة، اضطر -وهو ينتمى إلى طائفة رجال الدين- أن يهدى كتابه للبابا، بعدما أجّل نشر الكتاب سنوات طويلة، وقد أضاف الناشر مقدمة ملتفة فى شبه اعتذار مبطن، قال فيها: «نظرية حركة الأرض وُضعت كفرضية فقط ولم تؤكد كحقيقة». يد مرتعشة لعقل ثابت واضح جبار، لكن مَن يده فى النار ليست كمن يده فى الماء، كما يقولون فى أمثالنا الشعبية، حتى مارتن لوثر، الذى من المفروض أنه جدد وتمرد دينياً، تصلّب وتخشب حين تعلق الأمر بمنطق علمى فلكى، فقد قال: «يصغى الناس إلى فلكى مدعٍ يجتهد ليبين أن الأرض هى التى تدور وليس أفلاك السماوات أو القبة الزرقاء أو الشمس والقمر، كل من يرغب أن يظهر ذكياً يجب أن يفتعل منظومة جديدة هى الأفضل طبعاً من بين جميع المنظومات، إن هذا المغفل يريد أن يقلب علم الفلك بمجمله، إلا أن الكتاب المقدس يقول لنا إن يوشع أمر الشمس أن تقف ثابتة ولم يأمر الأرض». بالطبع، وفى وسط هذا الجو المحموم، لا بد لكوبرنيكوس أن ينحنى أمام تلك القذائف الشرسة، لأن المألوف لعينى وعينك هو أن الأرض مسطحة، والبديهى لخيالى وخيالك وهو يحملق فى السماء ويرى الشروق والغروب هو أن الشمس هى التى تدور، لكن العلم لا يعترف بالمألوف ولا بالبديهى ولا بالجماهيرى، لا يعترف إلا بالتجربة، لذلك يصدمك ويكسر صدَفة يقينك المستقر المتوارث. والفلكى كبلر الذى وصف هذا الدوران للكواكب بأنه ليس دائرياً ولكنه فى قطوع إهليليجية، وهذا يتعارض مع التقديس الإغريقى للدائرة ومنحها الكمال الأعظم، كبلر لم يتصادم مع الكنيسة، وكان يحاول نيل رضاها. والفيلسوف الفرنسى ديكارت هرب مرعوباً حين وصلته أنباء محاكمة جاليليو إلى هولندا، وبالطبع كلنا نعرف اعتذار جاليليو مهما قلنا عن أنه قال سراً «إنها تدور»، سواء كان هذا صحيحاً أم لا، إلا أنه فى النهاية اعتذر، وليس مطلوباً منه أن يكون انتحارياً، وإلقاء اللوم عليه أو على غيره ممن يحاولون النجاة بكلمات اعتذار هو ظلم لمشاعر العالم الذى يريد أن يصل علمه إلى الأجيال التالية، وليس غرضه أن يقدم «شو انتحارى». ومن السماء إلى الأرض، ومن علم الفلك لعلم الجيولوجيا، ظل رجال الدين يجبرون العلماء على الاعتذار، فقد اعتذر العالم بفون «buffon» عن الفرضيات التى وضعها فى كتابه «التاريخ الطبيعى» 1749، ومنها أن الجبال الحالية والأودية الأرضية هى نتاج علل ثانوية، وأن تلك العلل ستدمر قارات وتلالاً وأودية وتعيد إنتاج أخرى، ولكن الكنيسة اعتبرت هذه العلل والتغيرات الجيولوجية هى تغيير لكلمة الله، كلمة الخلق «ليكن»، ومعناها أن العالم قد خُلق بنفس الهضاب والتلال، وبنفس التوزيع لليابسة والبحر منذ بدء الخليقة. اضطر بفون إلى الاعتذار خوفاً من بطش الكنيسة وقسم اللاهوت فى السوربون، تراجع وكتب: «أصرح أننى لا أملك نوايا لمعارضة نص الكتاب المقدس، وأؤمن بشدة بكل ما يتعلق هنا بالخلق، بما يخص ترتيب الزمن والحقيقة، أهجر كل شىء فى كتابى بخصوص تشكيل الأرض، كل ما يعاكس رواية موسى»!! أستحضر يد ذلك العالم وأصابعها ترتعش، أستحضر صورة عينيه المنكسرتين، وإحساسه بأنه يخون علمه، لكن التاريخ انتصر له، لكن مَن سيعوضه عن تلك اللحظات التى ذبحته من الوريد إلى الوريد وهو مجبر بسلطة القهر والقمع أن يكذب لإنقاذ رقبته؟! ومع اكتشاف أمريكا وأستراليا بدأت أسئلة علماء الجيولوجيا والتاريخ الطبيعى تحرج رجال الدين وتستفزهم، تاريخ الأرض صار يقدر بملايين أو مليارات السنوات، وهذا لا يتفق مع حسابات الكهنة التى تحسب عمرها بالآلاف! كيف وصلت الحيوانات المتفردة والمميزة لأمريكا، إلى تلك القارة الجديدة، من جبل آرارات فى الأناضول الذى رست عليه سفينة نوح؟! سافرت تلك المسافة الطويلة بدون أن تترك أنواعاً منها فى الطريق؟! كيف استطاع حيوان الكسلان الكسول السلحفائى أن يسافر من حيث سفينة نوح إلى أمريكا الشمالية؟ أما حيوان الكنغر العجيب فكان أكبر لغز، فكيف قفز كل تلك الموانع والبحار وتخصص فى أستراليا فقط وحصرياً؟! وقفت الدوجما الدينية حائرة أمام تلك الأسئلة المحرجة المفحمة، لم تجد إلا المزيد من القمع والقهر وتلطيخ السمعة والاغتيال المعنوى للعالم، لدرجة أن داروين نفسه كان يتقى شر الصدام معهم، ولولا سلاطة لسان هكسلى وشجاعته وجرأته وقدرته الهائلة على السخرية ما كان داروين قد تجرّأ وناطح رجال الدين ونشر كتابه الذى تردد فى نشره ربع قرن، ولم يجبره على النشر إلا أن عالماً آخر قد توصل إلى نفس نظريته ولكنه لم يتوصل إلى نفس الآلية التى شرحها داروين. هنا اضطر إلى النشر، لكنه ظل حبيس دائرة تجنب الصدام التى ضمت الكثير من قبيلته العلمية الكبيرة على مر العصور، فهو بشر فى النهاية، يعانى من متاعب شديدة فى جهازه الهضمى، ويفقد أحب بناته إليه، وزوجته تخاف عليه أن يكون قد هرطق وينتظره العذاب، فالعالم البيولوجى أو الفيزيائى أو الكيميائى إنسان من لحم ودم وأعصاب وليس من فولاذ! حيرته تجبره على السؤال، وخوفه على علمه يرغمه على استكمال رحلته، يجد عدوه يزداد شراسة وتعصباً كلما قلت أدلته على دحض أدلة العالم، يتراجع خطوة ويهادن لحظة، لكنه حتماً لا يخسر المعركة، المراوغة من العالم لرجال الدين، وأحياناً خداعهم بالاعتذار الظاهرى، ضرورة. لا تعتبروها تخاذلاً منه أو نفاقاً، فبطش السلطة، أى سلطة -دينية كانت أم سياسية- من الممكن أن يقتل الفكرة فى مهدها، لذلك ينحنى العالم أحياناً لتمر العاصفة دون أن تقتلع جذوره، يسير فى الدنيا كشجرة مزهرة ترمى بذورها فى التربة وتنثر حبوب لقاحها مع الريح، يواجه السخرية واتهامات الجنون وتكفيرات الهرطقة بابتسامة مغموسة فى ملح الشجن، ابتسامة هامسة تقول: «غداً سينصفنى التاريخ، ويعيد اعتبارى الزمن».