من ضمن ما يقال عن معنى كلمة العقل فى اللغة العربية، أن العقل سمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط فى المهالك، ومثلها فى اللغة اعقل البعير... إلخ، أى أن العقل يربط ويُفرمل ويُهذب الجموح ويحدد الهدف ويخلق التمييز، العقل هو المنطق السليم والفكر السديد، العقل هو البوصلة والدفة لسفينة جانحة تأخذها الريح فى أى اتجاه، وفى رأيى ضمان نجاح الثورة هو فى هذا العقل، ومهمة تغيير عقل المجتمع أو، بالأصح والأدق، تغيير طريقة تفكيره أصعب بكثير وأخطر من تغيير النظام.

إذا قصرنا نجاح الثورة وقسناه بترمومتر تغيير الأشخاص سنكون قد ظلمنا الثورة ظلماً بيِّناً، نجاح الثورة ليس فقط فى سقوط صنم الرئيس وجمال مبارك وأحمد عز... إلخ.. إن سقوط أصنام النظام والفساد القديم فى غاية الأهمية، ولكن الأهم والأصعب والأخطر هو سقوط صنم التفكير القديم والعقل القديم، فلو ظل عقلنا على أسلوبه القديم خائفاً من طرح كل البديهيات على طاولة البحث فسيظل مقيداً ومكبلاً ومشلولاً، العقل الجرىء والجسور فى منطقة مناقشة الفساد السياسى فقط هو عقل يتحرك بربع طاقته، عقل معطل الخلايا، العقل الذى يستبدل خطاً أحمر بخط أحمر آخر هو عقل فسر الماء بعد الجهد بالماء!!، العقل النقدى لابد أن يكون غايتنا وهدفنا.

تغيير النظام تحرك بمجرد تغيير رأس النظام وبدأت قطع الدومينو التى كانت تستند إلى قوته فى التساقط الواحدة تلو الأخرى، لكن تغيير العقل لا ينفع معه أن تصوب سهم تغييرك على فرد بعينه أو شخص بذاته أو سلطة أو هيئة محددة، تغيير العقل يحتاج إلى ثورة شاملة وحوار مجتمعى كبير، لابد أن يسقط سور الخوف كله لا أجزاء منه، لا ينفع أن يقال ممنوع مناقشة قضايا اجتماعية معينة ويقال إننا قد تحررنا وأنجزنا ثورة، لا ينفع أن تصادر آراء فى تجديد الفكر الدينى ويقال إننا قد تحررنا وأنجزنا ثورة، لا ينفع أن نظل نعانى من شيزوفرينيا وازدواجية وعقد وكبت وعدوانية تجاه المرأة ويقال إننا قد تحررنا وأنجزنا ثورة، لا ينفع أن تحجب رسالة دكتوراه لأنها تخالف السائد أو يمنع بحث لأنه يتجاوز المسموح أو يحرق نيجاتيف فيلم لأنه ليس على مقاس ذوق الرقيب ويقال إننا قد تحررنا وأنجزنا ثورة.

الثورة مفهوم شامل وبصيرة بانورامية، بصيرة تنظر من خلال تليسكوب يشاهد المنظر كله لا من خلال ميكروسكوب يركز على جزئية دقيقة ويتغافل عن باقى الأجزاء، الجسد المصرى عانى من سرطان فتاك أقعده وأصابه بالوهن، سرطان لم يختر عضواً معيناً ولم يسكن نسيجاً بعينه، ولكنه أرسل ثانوياته إلى الرئة والكبد والنخاع والحبل الشوكى والعظم والمخ والمخيخ!، وتركيز العلاج على عضو محدد هو إضاعة للوقت واستنفاد للجهد. جسد المجتمع المصرى يحتاج دواء العقل المبصر الذى يتجول مع الدم حيث يختار خلايا الورم ويدمرها مع الحفاظ على السليم والصحيح والشريف منها.

العقل والبصيرة والحوار هى التطعيم الثلاثى ضد سرطان الجهل والفقر والتخلف.