تحدثنا عن القيد الأول والمعوق الرئيسى للعقل العربى وهو أن صاحب السلطان هو صاحب الرأى وليس صاحب رأى، أما القيد الثانى فهو سلطان الماضى على الحاضر، فالقديم له رهبة وسحر وجلال، ولكن أن يتحول الإعجاب إلى تقديس، تلك هى المشكلة، وسر النهضة الأوروبية كان فى تحول الناس من إدمان قراءة كتب الأقدمين إلى كتاب الطبيعة المفتوح، فقد كان الكاتب قديماً لا يحتاج إلى الخروج من الدير أو الصومعة أو الجامع، فقد كان كل جهده أن يشرح ويلخص، فهو اجترار من بعد اجترار من بعد اجترار، وشرح للشرح وتعليق على التعليق، وحتى الآن أصبح العلم كله متأثراً بتلك النظرة، عبارة عن تلقين فى تلقين وهذه هى الكارثة، والقيد الثالث أننا ما زلنا فى مرحلة السحر لا العلم كما يقول د. زكى نجيب محمود، فالسحر والعلم كلاهما محاولة لرد الظواهر إلى عللها وأسبابها، غير أن الساحر لا يقلقه أن يرد الظاهرة إلى علة غيبية ليس فى وسع الإنسان أن يستحدثها أو يسيطر عليها، وأما العالم فهو لا يقر عيناً إلا إذا رد الظاهرة المحسوسة إلى علة محسوسة كذلك، الساحر والعالم يقفان إلى جانب مريض، الأول يربط الظاهرة المرضية بالجن والعفاريت، والثانى بجرثومة معينة، فبينما يصبح الطريق مفتوحاً أمام العالم للبحث عن وسيلة يقتل بها الجراثيم، ترى الطريق مغلقاً أمام الساحر ولا يجد وسيلة لمغالبة العفاريت إلا بالبخور والأحجبة، فنحن بهذا المنهج أو بالأصح اللامنهج ما زلنا فى مرحلة السحر لم نبرحها بعد، ويؤكد د. زكى أننا لكى نتحضر لا بد لنا من أن ننتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء، لا بد أن نتحول، فعصر التحول هو عصرنا، فسفينة الحضارة تتحرك بين شطين ولو غفلنا عن هذه الحقيقة الأولية زاغت أبصارنا إلى ماضٍ تركناه، أو شطح بنا الخيال إلى مستقبل مأمول لا نملك بعدُ وسائله، فإذا كانت الأولى التوت أعناقنا، وتحولنا إلى أصنام من الملح، وإذا كانت الثانية أصابنا كساح كالذى يصيب الطفل حين يرغمه أبواه على المشى قبل أن تستقيم ساقاه وتقويا، وقاعدة مرحلة التحول ألا تكون هناك قاعدة جامدة تسد علينا طرق المغامرة والخلق، فالجديد لم يتحدد بعد حتى نقن القوانين ونقعد القواعد، ليس العيب فى أن نراجع وإنما العيب فى أن نقف عند ما كان قائماً وكأنه الأزل الذى لا يبيد، لكى نولد من جديد علينا أن نجمع بين قيد العلم وانطلاقة الحرية، فبالعلم تتشابه المجتمعات وبالحرية تختلف، وإذا كان العربى متخلفاً عن عصره فذلك لأنه لا علماً اكتسب ولا فناً معبراً أنشأ، فإذا حققنا علماً واقعياً وفناً ذاتياً، هنا سنكون ولدنا من جديد، أما التعامل مع تراثنا كما يقول فيلسوفنا الكبير لا بد أن يكون تحقيقه بداية الطريق لا نهايته، ولا بد أيضاً أن نكف عن السخرية من العلم فلا نلوى الشفاه امتعاضاً عند هبوط الإنسان على القمر، ولا نهز أكتافنا سخرية عند زرع القلب، وكأن ما يفعلونه كفر، ولا بد أن نستحضر كلمة العالم القديم الذى سئل لماذا يكثر من الشك؟ فأجاب: دفاعاً عن اليقين، فالعلم منهج قبل أن يكون نتيجة، وحكم العلم يختلف عن الهوى بأنه لا يتعدد بتعدد الأشخاص، العلم ولا طريق إلا العلم، ورحمك الله يا فيلسوفنا العظيم فقد قرعت الأجراس فى مجتمع يعانى من الصمم.