فرق كبير بين أن تحمى تراثك وبين أن تسجنه، أوروبا حمت تراثها من الاندثار وجمعت المخطوطات ورممت الآثار، ولكنها لم تسجن هذا التراث فى نظرة القدماء له، لم تكن عودتها لقراءة تراثها الإغريقى عودة حنين إلى القديم ولكنها رغبة فى معرفة طاقاته الإيجابية، وأملاً فى تجاوزه، على عكسنا نحن العرب والمسلمين، نحن -فى عناد عجيب يتناقض مع كل بديهيات الزمن والكون- نصر على سجن تراثنا ووضع مارد التغيير والتجدد الحضارى العظيم فى قمقم هذا التراث القديم، واجب علينا الاحترام ولكن ليست واجباً ولا فرضاً القداسة، هم مارسوا التشريح مع تراثهم لكننا مارسنا التسبيح، وضعوه على طاولة التشريح ولكننا وضعناه فى غرفة الزار وسرادق المولد لنحرق حوله البخور وندور دراويشَ فى حلقته المخدرة المغيبة، لولا انتقاد الرموز فى أوروبا ما نهضت أوروبا، كل ما حاولته الكنيسة فى قوانينها الشبيهة بقانون إهانة الرموز الذى ينوى برلماننا مناقشته، كل تلك المحاولات باءت بالفشل وتجاوزتها تيارات التنوير، ليست إهانة أن أخبر مريضى بحقيقة مرضه، بل عليه أن يحيينى ويقبلنى ويحترمنى ويبجلنى على أننى قد أخبرته بحقيقة مرضه، ومنحته التشخيص الذى سيساعد على العلاج، لكن أن يستقبل كلامى على أنه إهانة شخصية فهذا هو الجنون بعينه، وعندما أتحدث معه كطبيب عندما أدون تاريخه المرضى حول تاريخه الأسرى وعن السكر والضغط الذى كان عند أجداده، والأمراض الوراثية التى فى أسلافه، هل هذا الحديث وتلك التدوينات تمثل إهانة لتلك العائلة، أم تمثل بحثاً عن سبب ومكمن المرض؟!، هل مناقشة الزعيم الراحل عبدالناصر فى أسباب هزيمة 67 إهانة؟، هل فتح ملف معاوية بن أبى سفيان السياسى الدموى فى زمن الفتنة وما بعدها يعد إهانة للرموز؟، هل التساؤل عن مغزى وهدف ونتيجة قتل مئات الآلاف الذين استشهدوا فى موقعة الجمل وصفين والنهروان وسالت دماؤهم أنهاراً فى معارك بين مسلمين ومسلمين، واستباحة النساء فى الحرب ضد «ابن الزبير»، والرؤوس التى علقت على أعواد المشانق ولعبت فى جماجمها بأسنة الرماح، إهانة؟! هل مناقشة كل تلك الأحداث هى إهانة للرموز؟، من الذى أهان؟، هل هو أنا الذى لعبت فى جمجمة الحسين فى قصر الحكم وتلذذت باللهو فى البطون المبقورة والأعين المنزوعة؟، هل هو أنا أو طه حسين الذى تكرهونه كراهية التحريم هو من قفز على ذى النورين «عثمان» وذبحه وقطع أصابع «نائلة» زوجته؟!، من الذى أهان وشوه وقتل؟، هل هو المؤرخ أم القاتل؟!، هل أنا من جعل الجعد بن درهم أضحية العيد وذبحه على المنبر بعد الخطبة؟، هل من ساقه حظه التعس ليقرأ فى التاريخ ويكتب هو الذى قال للعشرة المبشرين بالجنة أن يرفعوا السيوف على بعضهم فى معركة صفرية إما أنا أو أنت والجميع خاسر فيها؟، هل الحل فى أن أفعل مثلما يقول مشايخنا الأجلاء «تلك فتن الصمت فيها أفضل»؟، هل مبدأ «اكفى ع الخبر ماجور» و«استر عليا الله يسترك»، ينفع فى المنهج التاريخى؟، للأسف ولأننا نعيش طوال الوقت بلا ذاكرة تاريخية، نخترع كل يوم قانوناً تارة باسم العيب وتارة أخرى باسم الازدراء وإهانة الرموز، برغم أن لدينا قانوناً واضحاً يحاكم السب والقذف ولا حاجة لنا بالتفاف ومناورات لوضع قوانين أخرى غامضة، لذلك أبشركم بأن معركة صفين ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، لم تخمد بعد، ما زال السيف خارج غمده والرمح خارج جرابه، لأننا ببساطة نهتف فليعش الرموز فى قبورهم الميتة ولنمت نحن فى قبورنا الحية.