عنوان لكتاب من أهم الكتب التى صدرت فى الخمس سنين الأخيرة، والتى يجب أن يقرأها كل مثقف عربى، بل كل إنسان عربى مسلم، «دليل التدين العاقل» للكاتب المغربى الكبير سعيد ناشيد الذى يتميز بفكر فلسفى تحليلى ينفذ إلى ما تحت السطح الظاهرى للأشياء، وأيضاً يتميز بلغة عربية جميلة ورصينة وبليغة وثرية بتشبيهاتها وجرسها الموسيقى الرائع. يشخّص الكاتب فيه الداء الذى يسكن العقل الإسلامى الحديث والذى قطع خيط التواصل بينه وبين عصر الازدهار والعقل والترجمة والعلوم... إلخ، الذى صرنا نتباكى عليه بالندب والعويل والاجترار. يبدأ الكتاب بتحديد مهام من سماهم «أطباء الحضارة»، وعلى رأسهم الفلاسفة، لعلاج أمراض تفكيرنا المزمنة: «المهمة الأولى للطبيب -وهى مهمة صعبة فى حال الأمراض النفسية والعقلية- إقناع المريض بالحاجة إلى العلاج، ولعل القدرة على الإقناع هنا تعيدنا إلى عنصر الثقة الذى نعتبره من أسس بناء الحضارة. بكل تأكيد، يجب أن يكون الطبيب قادراً على كسب ثقة المريض». ويؤكد المؤلف أن موروثنا الدينى الذى أهملنا تجديده يعرقل مسيرتنا نحو الأمام، فنحن فى رأيه «نحتاج إلى أطباء للحضارة والروح، حكماء وأوفياء، يشخّصون بصبر وبصيرة حالة الوعى الإسلامى كذات ينخرها مرض الإحساس بعقدة الذنب فى كل الحالات، ينخرها مرض الشعور بالنكسة والهزيمة فى كل المجالات، ينخرها مرض الاستسلام لنظرية المؤامرة فى كل النقاشات؛ هى ذات ينخرها الخوف المرَضى من الفقدان: فقدان الإيمان بالنسبة للمؤمنين، وفقدان الفحولة بالنسبة للرجال، وفقدان الأنوثة بالنسبة للفتيات؛ هى أيضاً ذات ينخرها تغوّل غرائز الغيرة، والحقد، والشماتة، والمكر، والحذر، وسيادة ثقافة التقية، والتمكين، والكتمان... إلخ». ولكن ما هى العثرات التى أجهضت وعرقلت مسيرتنا الحضارية نحو الديمقراطية!؟ يلخصها سعيد ناشيد فى ثلاث عثرات: الأولى إلغاء الفرد، والثانية تعطيل العقل، والثالثة تخريب الذاكرة الوطنية، ويقول «ناشيد» إننا ما زلنا حتى هذه اللحظة أسرى مفاهيم ومصطلحات قتالية تكرس وتبرر العنف وتجعلنا نفهم كيف تمارس تلك الجماعات المتطرفة الوحشية فاشيتها بهذا العنف الجامح، فيدعونا للنظر «إلى لائحة المفاهيم السياسية المستعمَلة: الطاعة، الجماعة، البيعة، الولاء، البراء، الكفار، أعداء الله، لواء الإسلام، الفرقة الناجية، الاستكبار العالمى... إلخ»، ليست المفاهيم والكلمات فى حد ذاتها فقط، ولكنها الدلالات والاستخدامات، ويشخّص سعيد ناشيد بنظرته الثاقبة وأشعته الفكرية المقطعية خمسة وساوس هى أمراض الحضارة، أو بالأصح الأمراض التى تجعلنا مقعدين عن الحضارة، وهى: أولاً: الاعتقاد بأن الغرب خائف من الإسلام لأنه الدين الذى سيغزو العالم فى الأخير، وأن إثارة المزيد من الخوف مطلب محمود وهدف مقصود، وأن إلقاء الرعب فى قلوب الكافرين بمشارق الأرض ومغاربها واجب دينى أساسى. ثانياً: الاعتقاد بأن الغرب يكره حضارة الإسلام لأنها، رغم وهنها الراهن، قائمة على «الحق»، وحضارة الغرب، رغم تفوقها الواقع، قائمة على «الباطل»، وأكثر شىء يظهر فيه الباطل جلياً هو لباس المرأة الذى يكرر الخطاب المتشدد أنه من علامات الساعة. ثالثاً: الاعتقاد بأن الغرب منشغل طول الوقت بالتآمر على الإسلام، لأن الإسلام يتحدى «جاهلية القرن العشرين» عن طريق إحياء «الفريضة الغائبة»، وأكبر همٍّ لدى الغرب هو تعرية نساء المسلمين حتى تموت غيرتهم، وتزول فحولتهم، وتنكسر شوكتهم. رابعاً: الاعتقاد بأن انهيار الغرب سيكون فأل خير على مستقبل الإسلام والمسلمين؛ لأن الهمَّ الوحيد للغرب هو تحطيم مجد الإسلام وتاجه، بل لا بد من العمل على تحقيق ذلك الانهيار، سواء بالدعاء، أو بالتفجير، أو باختراق مجتمعات الغرب وزرع بذور الفتنة فيها. خامساً، تفشّى الاعتقاد بأنه إذا انهارت الحضارة المعاصرة برمّتها، سواء بالحروب أو الزلازل أو غضب الطبيعة أو غضب السماء، أو حتى بالتفجير والتهجير، فستعلو راية الإسلام بكل تأكيد. لكن ما هو رهان التدين العاقل؟