أن يكتب مؤسس مايكروسوفت «بيل جيتس» نعى شخص، وأن ترثيه «النيويورك تايمز» فى افتتاحيتها، وأن يتصدر اسمه نشرات الأخبار الأمريكية، فهذا يعنى أن هذا الشخص ليس مجرد اسم ينتسب لأمريكا، ولكنه شخص مؤثر على مستوى العالم، إنه العالم المصرى الرائع العظيم د. عادل محمود الذى نذر حياته من أجل إنقاذ البشرية باللقاحات، لم أجد أفضل من باحث مصرى كان د. عادل محمود هو السبب فى تغيير حياته العلمية لكى يكتب عنه، أرسل لى الباحث الصيدلى المجتهد د. شريف أبوالحديد رسالة عن هذا الراحل العظيم يقول فيها: رجل برحيله ينطفئ نور المعرفة ويتوهج فى نفوس الطلاب ألم الفُرقة والعزاء، فقدَ مجال العلوم الحيوية بصيرته وفكره وعقله، فقدَ العالم الأستاذ الدكتور عادل محمود. وُلد الأستاذ العظيم سنة 1941، ويحكى أن أباه -المهندس الزراعى عبدالفتاح محمود- أصيب بالالتهاب الرئوى، وطُلِب من عادل -الذى كان فى العاشرة من عمره آنذاك- الذهاب لإحضار البنسلين، وعندما رجع عادل إلى المنزل وجد أباه قد وافته المنية. أصبح الآن عادل محمود رجل الأسرة، وأصبح عنده ثأر من الأمراض التى قد تودى بحياة الإنسان. تخرّج الدكتور عادل محمود فى كلية الطب جامعة القاهرة فى فترة عصيبة مرت على البلاد عام 1968. سافر إلى المملكة المتحدة، وحصل على درجة الدكتوراه من مدرسة لندن للصحة وطب المناطق الاستوائية بجامعة لندن عام 1971، هاجر بعدها إلى أمريكا كزميل باحث، أو باحث ما بعد الدكتوراه، عام 1973. وسرعان ما تقلد مناصب عدة حتى أصبح رئيس قسم الطب بجامعة «كايس وسترن» ما بين عامَى 1987 عام 1998. انتدبته شركة «ميرك» للأمصال -إحدى أكبر وأهم شركات الأمصال فى العالم- كرئيس لها فى الفترة ما بين 1998 وحتى 2006. فى هذه الفترة عكف الدكتور عادل محمود على إنتاج وتطوير لقاح ضد الـhuman papillomavirus (فيروس الورم الحليمى البشرى) المسبب لسرطان عنق الرحم الذى يصيب ما يزيد على نصف مليون فتاة أو سيدة سنوياً. منح الدكتور عادل محمود الأمل لآلاف وملايين الفتيات والسيدات فى الوقاية من هذا المرض اللعين بتطوير لقاح بفاعلية تفوق الـ99٪، ويُعد هذا إنجازاً علمياً غير مسبوق. كما ساهم الدكتور عادل محمود بتطوير لقاح ضد الـRotavirus الذى حصد أرواح قرابة نصف مليون طفل سنوياً فى عام 2000. وبذلك ثأر الدكتور عادل محمود من الأمراض المعدية وأتاح الفرصة لملايين من الأسر والأطفال والفتيات للاستمتاع بصحة جيدة واستكمال حياة صحية. تخلى الدكتور عادل عن منصبه فى «ميرك» سنة 2006 ليلتحق كأستاذ دكتور بإحدى الجامعات الكبرى فى أمريكا وهى جامعة بيرنستون، وظل هناك حتى لقى ربه يوم 11 يونيو 2018. كانت آخر مبادراته هى صندوق عالمى لتطوير اللقاحات، قائلاً: «يجب علينا ألا نجعل قلة الموارد تقف أمامنا لحل الأمراض الفتاكة»، فأى عمل إنسانى أرقى من هذا؟ حالفنى الحظ برؤية ومعرفة الدكتور عادل محمود فى سنة 2006 فى مؤتمر «بيوفيجن» الذى تنظمه مكتبة الإسكندرية. يُعد «بيوفيجن» أحد أهم وأعظم المؤتمرات العلمية فى مصر بلا منازع، حيث يضم كبار الباحثين فى العالم وعلماء حاصلين على جائزة نوبل.. نعم يحدث هذا فى مصر كل سنتين. وقتها كنت حديث التخرج فى كلية الصيدلة، وكان أملى أن أدرس العلوم الحيوية وأن أكمل دراستى فى مجال تطوير اللقاحات. لم أكن أعلم عن أى مصرى يعمل بهذا المجال آنذاك. وقد سُدت كل الطرق فى وجهى بحجة أننى خريج جامعة خاصة بتقدير «جيد»، وأحسست أن مجموعى فى الكلية «كبيرة من الكبائر» فى نظر المؤسسات العلمية الحكومية فى مصر. لم أعيَّن ولم تأتِ لى أى فرصة للعمل وقتها. كان اليأس يضرب بين ضلوعى، ولم أكن أملك شيئاً سوى بصيص من الأمل، إلى أن رأيت الدكتور عادل وقرأت عنه وشاهدت هذا العالم العظيم الذى جعلنى أفتخر بأنى مصرى وجعلنى أطمح أن أكون مثله. تشاء الظروف أن أدرس الدكتوراه فى نفس الجامعة التى حصل منها الدكتور عادل محمود على درجة الدكتوراه، وتشاء الظروف أيضاً أن أعلم بوفاته عن طريق نعى كتبه الأستاذ الدكتور البارون بيتر بيوت، رئيس الجامعة ومكتشف فيروس الإيبولا. نعى الدكتور بيتر الدكتور عادل ووصفه بأنه معلم وملهم.. تحدّث عن عمق معرفته وخفة ظله وسماحته وكرمه. وسرعان ما تأكدت من الخبر من تغريدة «بيل جيتس» عن وفاة الدكتور عادل وكلمة عميدة الطب بجامعة «كيس وسترن» بأن العالم أصبح أقل نوراً بعد غياب الدكتور عادل محمود. انهالت الدموع من عينى مع كل نعى كُتب من عظماء الطب فى العالم حزناً على فراق العالم الجليل. ما يحزننى حقاً هو أننا كمصريين لم ندرك قيمة هذا العالم الكريم الذى قالت عنه بنت أخيه إنه كان دائماً يسأل عن أخبار مصر بتشوق ويريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة عن أحوال مصر. إلى متى ستظل مصر تنشغل بما لا ينفعها من تطرف فكرى أو سفه ثقافى، أو ما بين هذا وذاك من خرافات علمية وانحطاطات أدبية. إلى متى يكون كل ما يشغل المواطن المصرى «نهود العوالم» وليس عقول العالمات والعلماء. إلى متى يكون المنتخب رياضياً فقط وليس منتخباً فكرياً أو ثقافياً. إلى متى سيظل أفراد النخبة فى مصر مكبلين ومُغيَّبين ومُغيِّبين؟! آلمنى حقاً أن فى يوم ميلاد الدكتورة سميرة موسى أجد المجمع العلمى البريطانى -الذى ترأسه إسحاق نيوتن ما بين عام 1703 و1727- يكتب عن الدكتورة الشهيدة ولم تكتب جريدة مصرية عن سميرة موسى فى عيد ميلاها. ويبقى السؤال: لماذا لا تكون عظة الأحد عن عظمة كل من عادل محمود أو سميرة موسى أو مصطفى مشرفة فى الكنيسة وتكون خطبة الجمعة عن عظمة مجدى يعقوب؟ تُرى كم من عادل محمود يعيش فى الخارج، وكم من عادل محمود تحطمت آماله بسبب الاستهتار بعقول الشباب. وكم من عادل محمود يأمل أن يرجع إلى وطنه لينهض به ويُحبط بعد أن يصطدم بالبيروقراطية السرطانية والفساد الثقافى؟ يبكى العالم على فراق الدكتور عادل محمود ونحن نبكى خروجنا من كأس العالم!! لم يمت عادل محمود لأنه حى بعلمه وفكره وطلابه. لم تفارق مصر الحبيبة قلبه السليم وعقله الحكيم يوماً، كما لم تفارق قلب أحمد زويل أو مجدى يعقوب أو أى طالب علم أو طالبة يحلمون بمصر أفضل. أكتب هذا النعى فى غرفتى فى حى هادئ فى شمال لندن وقلبى يمزقه الشوق إلى أرض مصر. خيط من الحلم يربط بين كل العلماء السابقين والمقبلين، حلم أن نرى مصرنا منارة للعلم، حلم أن تنال مصر استقلالها الفكرى العلمى حتى لا نحتاج إلى من يداوى مرضنا أو ينتج قمحنا أو يطعم أفواهنا أو يطور سلاحنا، حلم أن تكون مصر مصرية أو أن نفنى حياتنا من أجل رفعة لوائها. آسف إذا كنت قد أطلت وتطرقت لأشياء فرعية، ولكنى أراها فى صميم الحديث، فوفاة الدكتور عادل يجب أن تكون صفعة لنا حتى نفيق من غفوتنا ونقف دقيقة مع النفس وأن نعاهد أنفسنا أن نبنى مصر قوية حكيمة ذات بصيرة ورأى مستقل. وأناشد وزير التربية والتعليم إدراج درس فى المدرسة باسم الدكتور عادل، وأن تُحكى قصته، وإننى واثق أن أرض مصر الطيبة ستطرح وقتها عقولاً مستنيرة تنير العالم بالعلم والمعرفة.