لا يوجد مرض يقتل الهوية ويغتال الكرامة الإنسانية ويشطب الوجود ويكسر الروح ويفقدك كينونتك وبصمتك الوجودية، حتى لا يبقى منك إلا لافتة الاسم تتحرك على قدمين، ويجعلك أنت والعدم سواء، مثل مرض «ألزهايمر»، لذلك أدعم حملة رعاية مرضى «ألزهايمر» التى تشرف عليها السيدة الفاضلة د. عبلة الكحلاوى، فهذا المريض فتات إنسان وحطام روح وفتافيت بشر، يحتاج إلى رعاية خاصة وتعامل حذر فهو لا يملك من أمره شيئاً، تائه يحتاج إلى ملَّاح ماهر، حتى الأبناء يقعون فى «حيص بيص» مع الأب المصاب أو الأم المصابة بهذا المرض اللعين، لذلك فإن مستشفى خاصاً بهؤلاء المرضى هو مشروع عظيم ورائع ويستحق كل الدعم والمساندة، «ألزهايمر» أكثر قسوة من السرطان!.. تأكدت من صدق هذه الجملة عندما قالت لى سيدة إنها كانت تتمنى أن تصاب أمها بالسرطان أهون من هذا الـ«ألزهايمر» اللعين! قالتها البنت فى غضب ويأس وزهق، كانت تكشف على أمها المصابة بمرض جلدى ولكنها كانت تفضفض أثناء الكشف، عاملت أمها بقسوة، عنفتها بشدة، ولكنى لم أكن مدركاً أن المشكلة أكبر من احتمال فرد يقف فى وضع أعزل مهما كان محباً للأب أو الأم، أعزل بلا سند اجتماعى، فالمجتمع يترك عائلة مريض الـ«ألزهايمر» فى صحراء اللامبالاة.. لا نحاول تعليم الأبناء كيف يتعاملون مع المسن الذى أصيب بالخرف، لا نحاول إنشاء دور مسنين ورعاية آدمية وصحية لهؤلاء المسنين، لا نحاول خلق كوادر من مقدمى الرعاية وجلساء المسنين وتدريبهم لحمل بعض العبء عن أبناء مرضى الـ«ألزهايمر»، أنا لا أبرر ما فعلته البنت بأمها تحت ضغط الزهق، ولا أوافق على أى رد فعل عصبى تجاه مريض «ألزهايمر» المسكين، ولكنى أقول إن العشوائية فى مواجهة هذا المرض لا بد أن تفرز لنا مثل هذه النماذج، وعدم وجود منهج لطب المسنين فى مصر سيجعل مثل هذه السلوكيات الاجتماعية المرفوضة وضعاً طبيعياً، فإذا ألقينا بالحمل والعبء كله على الابن أو الابنة لتمريض المصاب بكارثة الـ«ألزهايمر» الذى ليس له علاج حتى الآن ودون أى تدريب، فنحن نحكم على هذا الابن بالموت البطىء، تنمو كرة الثلج وتتشكل من هذه العلاقة المعقدة التى يتضخم فيها إحساس الذنب المختلط بإحساس الزهق والغضب، يتوه الابن فى هذه المتاهة الملعونة، كيف يحمى الأب فى الوقت نفسه الذى لا يهدر فيه كرامته، كيف يضحك مع الأب ولا يضحك عليه، كيف يصبر وهو الذى يتحمل كل العبء، كيف يتفرغ لنفسه ولأبيه ويوفق بين الوقت المطلوب لهذا وذاك؟، لا بد أن نواجه أنفسنا بصراحة.. «ألزهايمر» يحتاج لخطة قومية، المسنون فى مصر يحتاجون لنظرة حنان ورعاية وتعامل معهم على أنهم طاقة لا عبء، نحتاج إلى تدريب الـcare givers أو مقدمى الرعاية المؤهلين، يجب إنشاء الـsenior citizens أو دور كبار السن الراقية المؤهلة لاستقبالهم وتحمل العبء مع أبنائهم، لذلك أحيى جمعية د. عبلة الكحلاوى «الباقيات الصالحات» التى تبنت هذا المشروع. عندما قرأنا خبر وفاة الفنان العالمى عمر الشريف بمرض «ألزهايمر» صُدمنا برحيله وصدمنا أيضاً عندما اكتشفنا أن مرض «ألزهايمر» ليس مجرد فقدان ذاكرة، ولكنه مرض من الممكن أن يقتل ببطء وبالتدريج لأنه يدمر خلايا المخ، ويظل مقياس تقدم الأمم له عدة معايير على رأسها الاهتمام بكبار السن، خاصة مرضى «ألزهايمر» الذى ليس له للأسف علاج حتى هذه اللحظة، المسافة ما بين الاهتمام الذى أحيط به الرئيس الأمريكى «ريجان» من زوجته «نانسى» ومن المجتمع الأمريكى، وما بين الإهمال الاجتماعى الذى لاقاه عمر الشريف فى أخريات حياته والذى امتد إلى جنازته وعزائه المخجل المهين لقامة فنية فى حجم هذا النجم الرائع، هذه المسافة هى الفرق بين مجتمع يحترم «ألزهايمر» ومجتمع يعانى من «ألزهايمر»!، كل الأمراض يصرخ فيها المريض: «آه».. إلا «ألزهايمر» فالذى يقول «آه» هو عائلة المريض.