الورق، بلغة الدراما، ما زال هو المشكلة، السيناريو الجيد غائب، إيقاع الحوار الذكى السريع ما زال فى إجازة، هذا العام تجلت المشكلة وانكشفت أكثر، ورقة التوت التى تغطى ضعف الكتابة هى مهارة المخرج، وهناك مخرجون كثيرون أكفاء، وأيضاً غطت العورة مهارة طابور طويل من الممثلين الذين أطلق عليهم «بئر نفط مصر الذى لا ينضب»، لكن «إيش تعمل ماشطة المخرج والممثل فى النص العكر؟!!»، لذلك أفتقد وأترحّم على الجميل العبقرى أسامة أنور عكاشة الذى، بالصدفة، تحل ذكراه هذه الأيام. تذكرت الآن تلك الرسالة التى أرسلتها له وهو فى المستشفى قبل رحيله، أناشده البقاء والتشبث بالحياة، لكن خطوات القدر كانت أسرع، كنت أحس أن الدراما بعده ستكون يتيمة وتائهة، وقد حدث، كتبت له وهو على فراش الموت تلك الرسالة: ومنين بييجى الشجن.. من اختلاف الزمن.. قبلة على جبين أسامة أنور عكاشة الذى رصد لنا شجن الوطن وأحلامه المجهَضة فى دراما تليفزيونية من نسيج جديد ووعى جديد ولغة جديدة ورؤية جديدة وحس جديد. وعندما اختلف الزمن نظر أسامة حوله فوجد الأقزام قد احتلوا منافذ الدخول والخروج فى دنيا الإبداع، وسكنوا مقدمة المشهد، وجلسوا فى الصفوف الأولى، حاولوا إغراءه بأن يكون من الكتبة فأصر على كونه كاتباً، وإقناعه بأن يكون من حمَلة المباخر ولكنه قرر أن يحمل هموم الوطن. أعرف أن نصال سيوف الغدر والرداءة والكذب قد نالت من جسدك وعزيمتك.. أعرف أن محاولات الكتابة بروح «ليالى الحلمية» صارت كالقبض على الجمر.. أعرف كل ذلك، ولكنى أعرفك أكثر، وأعرف وهج إبداعك، وأعرف صلابة عنادك، فلا ترفع «الراية البيضا»، فما زال نيل إبداعك يا أسامة يجرى ويروينا. «تحت نفس الشمس، وفوق نفس التراب، كلنا بنجرى ورا نفس السراب».. إبداعك يا أسامة لم يكن سراباً، ملحمة «ليالى الحلمية» شكّلت وجدان جيل بأكمله، «أرابيسك» فتحت عيوننا على تعشيقات وطبقات التاريخ المصرى المتراكم والمتداخل والمكون لشخصية حفر تجاعيدها زمن طويل لا تلوثه أتربة طارئة من شرق صحراوى أو غرب استعمارى. «عصفور النار» زرع فينا كراهية الديكتاتور وحرّضنا على سرقة نار الحرية حتى ولو أحرقت أصابعنا. «ما تمنعوش الصادقين عن صدقهم.. وما تحرموش العاشقين من عشقهم.. كل اللى عايشين للبشر من حقهم يقفوا ويكملوا».. لا بد أن تقف وتكمل يا أسامة، أنت عاشق ولا يوجد قانون فى الكون يحرّم العشق ويجرّم الحب، أنت لم تحارب طواحين الهواء مثل أبوالعلا البشرى، أنت نثرت بذور الياسمين فى حياتنا، ووضعت قناع أكسجين الفن ليسرى فى رئاتنا التى تحجّرت وتكلّست من غلظة الفن الهابط ودراما الصابون، وتنقذنا من الموت الإكلينيكى فى غرفة الإعدام بسيانيد مسلسلات الحواوشى. «وينفلت من بين إيدينا الزمان.. كأنه سَحبة قوس فى أوتار كمان.. وتنفرط الأيام عود كهرمان.. يتفرفط النور والحنان والأمان.. الغش طرطش رش ع الوش بوية.. ما دريتش مين بلياتشو أو مين رزين.. شاب الزمان وشقيقى مش شكل ابويا.. شاهت وشوشنا تهنا بين شين وزين»... لم تقبل يا أسامة بدور البلياتشو والمهرج فى دنيا الكتابة، فتعرضت لسهام النقد المسمومة التى وصلت لدرجة تجنيد مؤسسة صحفية كاملة لاغتيالك معنوياً، فى زمن الغش والتدليس ما زلت زين كُتّاب الدراما فى وطن يصعد فيه الشين على أكتاف الزين. قبلة على جبينك الوضّاء ولقلمك الشريف، تحية من مريد وعاشق إلى عصفور اقتحم النار واقتبس منها شعلة المعرفة والإبداع وما زال يغرد، وسيظل يغرد.