مثلما وصفوا بيتهوفن بالجنون وصفنا نحن بليغ حمدى.. الفرق هو أنهم تسامحوا مع جنون بيتهوفن عندما أقحم أصوات الكورال فى سيمفونيته التاسعة بينما قتلنا نحن «بليغ» حين جعل حياته قرباناً على مذبح فنه! المجتمعات تتقدم بقدر ما تتسامح وتحتضن من نطلق عليهم بلغتنا الجامدة المجانين أو اللاسعين أو الضاربين أو من لديهم الشعرة المتأرجحة! لحظة الإلهام الفنى الحقيقى عندما تلمسها كهرباء الوحى وعصا الإلهام السحرية، غالباً ما يستقبلها الجهاز العصبى والنفسى للفنان بتوتر ورعشة وزلزال داخلى، يلملم المبدع حتى فى العلم لا الفن فقط شتات هذا الجنون وينظمه ويضبط إيقاعه الهادر فى لحظة الخلق والإبداع فيخرج لنا هذا السحر الغامض، لولا فهم الغرب لجنون و«طققان» الفنان فى شخصية بابلو بيكاسو وسلفادور دالى وحتى فى شرود وغرابة العالم تشارلز داروين، لولا رحابة صدر تلك المجتمعات مع خصام هؤلاء مع المألوف والبديهى والعادى ما كان هذا الفن ولا ذلك العلم، كتب الفنان والمبدع الراحل ممدوح عدوان دفاعاً عن الجنون تلك المقطوعة النثرية، يقول «عدوان»: «نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين. وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكررة.. ومملة. نحن فى حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيباً واعتبار المجنون عاهة اجتماعية. فى حياتنا شىء يجنن. وحين لا يجن أحد فهذا يعنى أن أحاسيسنا متبلدة وأن فجائعنا لا تهزنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة... ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة. نحن فى حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة، فالجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة.. ويفرحون بالمقاييس المتاحة.. يضحكون بالمقاييس المتاحة.. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة... لذلك ينهزمون بالمقاييس كلها ولا ينتصرون أبداً. بغتة يجن شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتثلم أحاسيسنا. يظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق.. وكم هو عالم لا معقول ولا مقبول. كم هو مفجع ومُبكٍ وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون. جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل فى أسطورة الملك العارى، أمر الملك العارى أن يروه مرتدياً ثيابه فرأوه. وأمر أن يُبدوا آراءهم فى ثيابه فامتدحوه وأطنبوا، وحين خرج إلى جماهيره فاجأه بالصراخ طفل لم يدجن بعد (ولكنه عارٍ... عارٍ تماماً). لو كان هذا الطفل أكبر قليلاً لاتهم بالجنون. ولكن لأن فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة كانت صرخته فاضحة للملك وللحاشية وللمتملقين وللخائفين. صرخة الطفل، مثل جنون الفنان، تفضح كم أن الناس منافقون ومُراءون وخائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير بأصبعه إليها ويعلن عنها، فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش ودون تلوين بالمطامع ودون مكياج بالتبريرات، وفى أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار، طفل لا يحتمل ما تعودنا على احتماله، طفل يبكى حين يتألم ويصرخ حين يجوع ويغضب حين يهان ويجن حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان».