فى الاجتماع الأسرى الذى ضمّ كتاب «الوطن» وتشرفت بحضوره فى ضيافة الأستاذ عبدالفتاح الجبالى رئيس مجلس الإدارة، والأستاذ محمود مسلم رئيس التحرير، الذى عرض فيه الكتاب آراءهم بكل حرية وحب وحماس، واستمع الأستاذان «الجبالى ومسلم» إليها بكل رحابة صدر وتفاعل وإنصات جاد وحقيقى، كل الحضور سواء الكاتب منهم أو المسئول، كان هدفهم هو المصلحة العامة وتنوير القراء، كانت أكثر الكلمات حضوراً هى التنوير، من ضمن ما عرضته على الحضور كانت قضية «المحرّر العلمى» فى الإعلام المصرى، واقترحت أن تقوم «الوطن» بتبنى هذه الفكرة وعقد دورة تدريبية على المستوى العام لا الخاص، إنها كارثة ومصيبة وفضيحة ألا يوجد فى صحافتنا وإعلامنا المصرى محرر علمى واحد مؤهل!!، كلية الإعلام لا تدرّس هذا الكورس، لكن د. محمود خليل اقترح بداية تدريس بديهياته الأولى، ثم التخصّص فيه فى مرحلة الدبلوم التى يتمنّى أن تنظر إليها الجامعة بعين الرعاية، نقابة الصحفيين غير مهتمة، الفضائيات فى سُبات عميق، معهد إذاعة وتليفزيون ماسبيرو ينعى من بناه، الصحافة العلمية وتحرير الموضوع العلمى طفل لقيط لا يجد من يتبنّاه، بعد وفاة الصحفى الكبير صلاح جلال مؤسس نوادى العلوم، مات معه هذا الفرع من الاهتمام الصحفى وشُيّع معه إلى قبره!! نعم، هناك مندوبون من الجرائد فى وزارة الصحة، وهناك برامج تلميع لعيادات الأطباء فى الفضائيات، هناك محرّرون لأخبار من نوعية عشر فوائد للبردقوش وإعجاز حبة البركة. هناك مترجم ردىء لأخبار علمية لا يتم التحقق منها، وحتى إن أراد لا يستطيع التحقّق، لأنه لا يملك مؤهلات التحقّق والبحث والرصد والتمحيص.. نعم، هناك كل هؤلاء، لكن كل هؤلاء لا يحقّقون معنى «المحرر العلمى»، فمن يتابع المجلات والجرائد العالمية مثل «التايم» و«النيوزويك»، سيجد موضوع الغلاف أو المانشيت الرئيسى مرة كل شهر على الأقل عن موضوع علمى أو إنجاز طبى، كتبه محرر علمى هذه وظيفته فى المجلة أو الجريدة، يطلع القارئ ويشرح ويحلل له ويسهل عليه الفهم بالرسم والإحصاء، وأحياناً بالطرفة والنكتة، هنا فى مصر الموضوع العلمى أو الطبى الرصين الصارم علمياً، والجذاب صحفياً هو عورة لا بد أن تستتر ونهيل عليها التراب ونأخذ عزاءها فى سرادق بمساحة الوطن!، فى المجال الطبى، على سبيل المثال، نجد كل يوم من الأطباء والعطارين والنصابين والعشابين وعابرى السبيل اختراعات واكتشافات ما أنزل الله بها من سلطان، هى «افتكاسات حواة»، وليست اكتشافات باحثين محترمين، ومن خبرتى الشخصية المتواضعة فإن ملاحقة هؤلاء بالقضايا فقط ليست حلاً على الإطلاق، الثغرات القانونية تتّسع على الراتق، ودرجات التقاضى حبالها تمتد إلى الشمس، والمنصوب عليهم من ضعاف الثقافة العلمية عديمو الوعى الطبى والصحى، وأحياناً هم متواطئون مع النصابين ومستمتعون بالدجل الواقع عليهم واشتغالات «الجلا الجلا» لعقولهم المغيبة، إذاً الحل فى خلق جهاز مناعة ثقافى علمى يجعل القارئ يشير إلى صورة المكتشف المزيف، قائلاً «هذا نصاب»، ويجعل المشاهد يمسك بالريموت، محولاً القناة ولسان حاله يقول «فقستك يا حرامى»!!، هذا لن يتأتى ومستحيل أن يحدث إلا من خلال خلق طبقة من المحررين العلميين الأكفاء المؤهلين للتصدى لمثل هذه المهمة المقدسة، وخلق الوعى النقدى العلمى لدى المواطن المصرى، وتحصين جهاز المناعة الثقافى له بحيث يعرف معانى مهمة أساسية ويجيب عن أسئلة فارقة، ما معنى كلمة دواء واكتشاف ومتى نطلق على مجلة وصف علمية محكمة؟، ما المصدر الريفرنس المضبوط المعترَف به؟، ما مراحل التجريب والبحث؟، ما المنهج العلمى؟، ما العلم المزيف وكيف نفرق بينه وبين العلم التجريبى الحقيقى.. إلخ، تلك الأسئلة وغيرها تخلق لدينا جهاز مناعة قوياً محقوناً بكل اللقاحات والتطعيمات، وتنقذنا من الإيدز العلمى الذى سينتهى بنا إلى شبح الإنسانية.