عندما شاهدت السيارة «التسلا» فى أحد معارض السيارات فى كاليفورنيا وشرح لى الموظف كيف أنها تسير بدون سائق وبكل معدلات الأمان والانضباط والتحكم والسرعة والراحة والرفاهية، لم أكن مصدقاً ولا مستوعباً ولا متخيلاً، فقد كان كلامه متجاوزاً لطاقة وسقف توقعاتى، لكنه لم يرحمنى ولكمنى بالخبر «القاضية» وهو أن صاحب الشركة أرسل سيارة من تلك النوعية المدهشة إلى المريخ!! سرحت بخيالى وقلت إنها فقط مسألة وقت، فلا يمكن أن يمر ربع قرن إلا ومهنة السائق ستكون فى ذمة التاريخ ومتحف الأنتيكات!! وعندما قرأت التقرير المهم أمس، والذى نشرته «الحياة» عن شكاوى ومظاهرات عمال «مكدونالد» فى جنوب غرب لندن احتجاجاً على المطعم الذى بلا عمال وتشغله ثلاث ماكينات فقط، ما عليك إلا أن تضغط على طلبك فى قائمة الطعام فى الماكينة الأولى وتضع النقود فتجهز لك الماكينة الثانية طلبك، وتوصله إلى مائدتك الماكينة الثالثة!! وهكذا انضم فى مخيلتى إلى قائمة ديناصورات المهن المنقرضة مهنة كاشير المطعم والنادل، وفعلاً اليابان الآن فيها مطاعم بلا نادل أو جرسونات! المستقبل مرعب تسيطر عليه الماكينات، مرعب للدول الأرنبية التى تتكاثر بطريقة أرنبية سرطانية ولا تعرف أن قطار البطالة سيدهس الجميع وأن عصر سيادة الماكينة مقبل لا محالة، «الروبوت» الآن أدق من الجرّاح! وهناك جراحات فى منتهى الدقة والخطورة يجريها الروبوت من الألف إلى الياء ويقتحم فيها مساحات كانت مستعصية على الجرّاح، الصحفيون والكتّاب «اللى زى حالاتنا» فى الجرائد الورقية ما هو مصيرهم بعد زحف صحافة الإنترنت ووحش مواقع التواصل الاجتماعى الذى يلتهم اهتمامات الجميع؟! عمال الطباعة ومؤسسات الصحف الكبرى أين سيذهبون وما هو المصير؟! بائع الجرائد هل سيختفى نداؤه الصباحى: «أهرام، أخبار، جمهورية»، ويصبح مجرد ذكرى نتندّر بها؟ موظفو شركات السياحة والطيران يتقلصون وصارت مهامهم هامشية من السهل جداً الاستغناء عنها، فى مطار أمستردام على سبيل المثال وضعت التذكرة التى حجزتها بالإنترنت فى الماكينة لتمنحنى فى ثوانٍ «البوردينج»، ثم ذهبت بالحقائب إلى ماكينة الوزن، وتم الوزن ووضع الأوراق الخاصة بشركة الطيران، وبعدها وضعت على السير أوتوماتيكياً إلى الطائرة!! لم أتعامل حتى باب الطائرة مع أى موظف، بالطبع هذا «أوبشن» اختيارى حتى الآن، لكنه فى غضون سنوات سيكون إجبارياً، سيختفى موظف البنك مثلما اختفى دفتر التوفير الورقى، بمجرد «أبليكيشن» على موبايلك الآن تودع وتسحب وتعرف رصيدك، تمهيداً لوداع موظفى البنوك، زمن الأبليكيشن يقتحم كل شىء، بداية من طلب الدليفرى والأوبر وحتى حجز تذاكر السفر للفضاء! نشرت «الحياة» التقرير الذى أصدرته جامعة أكسفورد البريطانية فى عام 2013 حول الماكينة وتأثيرها، حذرت من أن 47 فى المائة من الوظائف فى أمريكا مثلاً سيقوم بها روبوت خلال العقدين المقبلين، مع تقدير أن نحو 6 فى المائة من الوظائف يُتوقّع اختفاؤها بحلول 2021. والأكثر تأثراً هى قطاعات الصناعات والخدمات، ففى عام 1979، كانت شركة «جنرال موتورز» توظّف أكثر من 800 ألف شخص وأرباحها نحو 11 بليون دولار، لكن عدد العاملين فيها ظل يتراجع على مدار عقود بسبب الماكينة. وهى توظف اليوم 180 ألف شخص فقط، فيما أرباحها نحو 166 بليون دولار. وعلى المنوال ذاته شركة فورد لصناعة السيارات، فبعد أن كان عدد العاملين فيها منذ ثلاثة عقود يتجاوز نصف مليون شخص، بات نحو 170 ألفاً. بعبارة أخرى، بعدما كان قطاع الصناعة المصدر الأول للتوظيف خلال معظم القرن العشرين، لم يعد الأمر كذلك اليوم، فعدد العاملين فى القطاع الصناعى فى أمريكا مثلاً انخفض من نحو 20 مليوناً عام 1977 إلى 12 مليوناً اليوم (هذا تراجع كبير يأخذ فى الاعتبار الزيادة الطبيعية للسكان خلال العقود الأربعة الماضية)، باختصار كل المهن ستنقرض إلا مهنة رجل الدين فى الشرق الأوسط!! فهل نحن مستعدون وجاهزون ومستوعبون؟