لماذا هذه الاتهامات بالإلحاد وغيرها من التهم الجاهزة لمن هو مقتنع بنظرية التطور التى تخطت حدود التخمينات وصارت حقيقة دامغة لا تحتاج شهادة من أحد؟!، الإجابة هى إذا كانت مقولة إن الأرض ليست مركز الكون، بل هى مجرد كوكب تابع لنجم من ملايين النجوم التى تضمها مجرة من ضمن ملايين المجرات التى تسبح فى الكون، قد أدت إلى اضطهاد كوبر نيكوس وحرق الراهب برونو وسجن جاليليو كسيحاً أعمى، فما هو المصير الذى سينتظر من قال إن الإنسان مجرد حلقة فى سلسلة التطور، معارضاً نظرية الخلق المستقل المكتوبة فى التوراة؟، اعتبرت تلك إهانة من «داروين» للإنسان محور الكون والأهم من كل الكواكب والمجرات والنجوم التى خلقت من أجله هو فقط، فكيف سيكون الضفدع والفأر والسحلية والخفاش من شجرة العائلة؟ وكيف سيكون القرد من أبناء عمومتى؟!، هذا السؤال الاستنكارى هو الذى جعل «داروين» يؤجل نشر كتابه أكثر من عشرين عاماً، جر الإنسان من صفوف الملائكة لوضعه فى طابور الوحوش والقرود سيصدم الإنسان ويخدش غروره، ولكن ما شاهده «داروين» فى رحلة سفينة البيجل جعله على يقين بأن التطور حقيقة دامغة، والدلائل التى دونها فى كتاب «أصل الأنواع» هى شفرة الفهم الجديد لسر الحياة ونشوء الكون وتطور الكائنات. كانت جزر الجالاباجوس التى وصلت إليها سفينة البيجل هى أجمل معمل تطور فى العالم، جزر معزولة فى المحيط الهادى على بعد ٦٥٠ ميلاً من السواحل الغربية للإكوادور، وجد فيها «داروين» علامات استفهام استفزت عقله الفضولى، أربعة عشر نوعاً من العصافير بمناقير مختلفة، منها المناسب للبذور الصغيرة ومنها المناسب للبذور الكبيرة ومنها ما يلتقط الحشرات.. إلخ، وجد حيوانات متفردة ومميزة فى هذه المنطقة المعزولة التى لم تصل إليها بالقطع سفينة نوح، بل المدهش أنه فى كل جزيرة حيوان مختلف عن الجزيرة الأخرى، فعلى سبيل المثال فى الجزر التى لا توجد بها إلا النباتات المرتفعة كانت السلحفاة تمتلك فتحة فوق الرقبة فى ظهرها الصلب تمكنها من قطف أوراق تلك النباتات. وكان السؤال: كيف وصلت تلك الحيوانات إلى تلك الجزر المهجورة؟! وجد أصداف بحر فى الجبال مما أثار سؤالاً حول ماضى هذه الجبال التى كانت غارقة فى البحر! وجد هيكلاً ضخماً لآكل نمل قديم يكاد يكون متطابقاً مع آكل النمل الحديث صغير الحجم، رأى قرب القطب الجنوبى بشراً يسيرون عراة فى الصقيع بدون معاناة، وجد فى جالاباجوس سلوكيات غير مألوفة مثل ثعالب أليفة وإوز لا يطير وطيور لا تخشى الإنسان!!، حاول سكان تلك البلاد تقديم تفسيرات أسطورية ميسورة جاهزة لـ«داروين»، ولكنه كان مريضاً بداء الفضول العلمى وعدم قبول الأفكار الجاهزة وتصديقها لمجرد أنها أفكار قديمة مقدسة، فحين وجد عظاماً ضخمة فى سهول أمريكا الجنوبية وحاول إيجاد علاقة بينها وبين حيوانات الزمن الحالى صغيرة الحجم، قال له السكان هناك إن عظام الحفريات تكبر بعد موتها وإن الأنهار تحول العظام الصغيرة إلى ضخمة!!، سأل نفسه: لماذا لا أجد حفريات لثدييات، ومنها الإنسان فى الطبقة الأقدم التى وجدت فيها حفريات زواحف؟ لماذا هذا الفصل الحاد فى طبقات الحفريات إذا كانت كل تلك الحيوانات قد خلقت فى نفس الزمن؟ لماذا الشبه بين جناح الطيور وأصابع الثدييات؟ لماذا تغير الحصان من ذى الأصابع الخمسة إلى صاحب الحافر؟ لماذا يمتلك الثعبان أرجلاً ضامرة ولماذا يمتلك الإنسان زائدة دودية كل وظيفتها الحالية أن تنفجر وتودى بحياة صاحبها إذا لم يسعف فوراً؟! تجمعت الأدلة والشواهد على تأكيد أكبر ثورة فكرية فى التاريخ، ثورة التطور التى تحولت من نظرية إلى فلسفة، لكن هل اخترعها «داروين» من العدم؟\r\n\r\n