ما زلت أتذكر مشهد تكريم أوباما للصحفى الأمريكى الأسطورة بن برادلى قبل وفاته فى الثالثة والتسعين من عمره، قرأت وقتها عن هذا العملاق الذكى صاحب الذاكرة الحديدية الذى مات بألزهايمر، واندهشت من شدة حبه وغرامه الذى بلغ حد الوله بالصحافة، لدرجة أنك قد تظن أن حبر المطابع هو الذى يسرى فى شرايينه وليس الدم!، هو صاحب أكبر خبطة صحفية فى التاريخ، فضيحة الووترجيت التى أطاحت بالرئيس نيكسون والتى تناولها فيلم «كل رجال الرئيس»، لكن برادلى له معركة أخرى شاركته فيها صاحبة الواشنطن بوست كاترين جراهام وهى معركة وثائق البنتاجون حول فيتنام التى كشفت عن أضخم كذبة خدعت بها السلطة الشعب الأمريكى، خدعة حرب فيتنام التى كانت أمريكا تنزف دماً وشباباً ومالاً بينما الآلة الإعلامية تردد صدى الانتصارات الزائفة، هذه المعركة الصحفية جسدها هذا الفيلم العبقرى الجميل الممتع «the post»، أهم ما فى الفيلم لحظة صناعة الفيلم ورسالته والمحفز على إنتاجه، المخرج الأسطورة ستيفن سبيلبرج الذى عندما يظهر رقمه على موبايلات نجوم هوليود فإنهم يرقصون فرحاً، هذا الأسطورة أراد الرد على اتهامات ترامب للصحافة الأمريكية واستخفافه بها ووصفه لها بالكاذبة، قرأ معالجة الفيلم قرر إنتاجه وإخراجه ولم يتردد، هاتف توم هانكس وميريل ستريب صاحبى الثقل الفنى والنجومية الكاسحة فوافقا بلا ثرثرة وبدون فصال، فالمهم القضية، فى ظرف ستة شهور كان قد أنهى هذا الفيلم البسيط الذى لم يستعرض فيه عضلاته الإخراجية، ليس فيه سفينة فضاء ولا وحوش ولا أسماك قرش ولا رجال آليون ولا مطاردات سيارات مرعبة، فيه فقط إيقاع لاهث بين حاكم يريد القمع ومعه سلطة كارهة لحرية الصحافة وبين جريدة الواشنطن بوست التى تسلمها برادلى وهى صحيفة إقليمية تتحدث عن العاصمة وتتوجه لجمهورها الضيق وخرج بها إلى العالمية، كسبت الصحافة المعركة، والأهم هى أنها كسبتها من خلال بساطة وفطرة الإنسانية التى تحملها الأرملة التى ورثت تلك الجريدة بعد وفاة زوجها، تتحول من مجرد ربة بيت وسيدة صالون ثرية إلى صاحبة أخطر قرار فى عالم الصحافة الأمريكية حينذاك، قررت ببوصلتها الإنسانية وضميرها اليقظ ووطنيتها المتدفقة أن تنشر وثائق البنتاجون برغم حظر النشر وأن تضحى بصداقة العمر مع وزير الدفاع السابق ماكنمارا، حسمت الصراع لصالح الصدق والحقيقة والحرية وحق المعرفة، كان شعارها قول برادلى «إننا صحافة لخدمة المحكومين لا الحاكم، وأهم إثبات لحق النشر هو النشر»، آلاف الشباب يموت فى مستنقعات فيتنام بلا ثمن، يُقتلون كالدجاج لا لشىء سوى إرضاء غرور السلطات المتعاقبة وللحفاظ على غطرسة الجالس على المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض، ناقش الفيلم فكرة حظر النشر لأنه يضر بالأمن القومى، وتساءل ما هو الأمن القومى؟، هل النشر سيحمى أرواح الجنود الأمريكان أم سيؤدى إلى المزيد من نزف الدماء؟، منع النشر هو الذى سيجعل نافورة الدم مستمرة والخديعة تغسل الأدمغة أكثر وأكثر، إذن هو ليس الأمن القومى ولكنه أمن نيكسون ومن قبله جونسون وأسلافه، مباراة الأداء بين ميريل ستريب وتوم هانكس هى سيمفونية منضبطة الإيقاع برغم توترها، والمخرج أثبت لنا أن النجاح فى بساطة التسلل لا فى صراخ التحريض.