رحل الكاتب والفنان وعاشق التفاصيل المصرى حتى النخاع مكاوى سعيد، وهذا ما كتبته من خواطر قبل رحيله عن كتابه «مقتنيات وسط البلد»: إذا قابلت مكاوى سعيد فى وسط البلد فكن يقظاً منتبهاً، لا يخدعك هدوؤه أو شروده أو انشغاله بماتش الطاولة أو صمته المراوغ أو كسله المزمن، فهو كاميرا بشرية مضغوط على زنادها الأربع والعشرين ساعة، مستعدة لاختزان كادرات المكان والزمان فى كارت الميمورى المكاوى السعيدى الذى سعته مليون جيجا، لم يخُن عشقه الأبدى بالتقاط التفاصيل وهضمها فى معدة إبداعه الخاص المتفرد، فى كل ما مارسه من إبداع لم يمارس إلا ما أحبه وما يجيد فعله، لم يكتب عن الريف تسولاً لتعاطف أو بحثاً عن لقب نصير الغلابة، لأنه ببساطة لا يعرف هذا الريف، أرّخ لوسط البلد لأن تفاصيله تسكن نخاعه، حياته تنويعات على هذا العشق، سواء كان يبدع فيلماً تسجيلياً أو رواية أو قصة أو سيناريو، هو «أويمجى» كتابة محترف، يقتنص التفصيلة ويثبتها ثم ينزع عنها الزوائد بإزميل أسلوبه السهل الذى من فرط سهولته لا تستطيع تقليده، ولأنه «أويمجى» محترف فهو لا يستطيع أن يستنسخ كماكينات نجارة الكتابة التى تضخ غثاء يلتهمه السوق، ولكنه مبدع «الهاند ميد» الذى يصنع فنه على مهل وبكسل لذيذ، ولكنه فى النهاية يمنحنا القطعة الفنية المغناطيس «السينييه» وعليها توقيعه الذى يستحيل تزويره، لتصبح هى التحفة التى تستحق عناء الانتظار وتعب المخاض. «مقتنيات وسط البلد» كتاب هو حصاد هذا العشق المكاوى، بورتريهات مرسومة بمهارة بيكاسو وجنون فان جوخ وجموح سلفادور دالى وحس السخرية الذى يسكن ابن البلد المصرى الذى ينقش وشم أبوزيد الهلالى فى الموالد! بعد الانتهاء من قراءته سألت نفسى سؤالاً يعرفه كل من مارس الكتابة: كيف هان على مكاوى سعيد أن يضحى بأكثر من أربعين شخصية على الورق وبمنتهى السهولة وهم يمثلون مشاريع كروكى لأربعين رواية وأربعين فيلماً؟ كل كاتب لا بد له من لطشة نرجسية وأنانية وبخل فى التعامل مع شخوصه، لذلك أحسست بكمّ التضحية الفنية التى أهدرها هذا الفنان الجميل، لكنه إهدار ممتع، لن أقص عليك رحلتى مع هذه الشخصيات التى بها أحياناً لمسات من شخوص كافكا، وأحياناً أخرى من أجواء داريل فى رباعية الإسكندرية، من الممكن أن أطلق عليها أربعينية وسط البلد بقلم جبرتى وسط البلد وشيخ حارته وعمدته مكاوى سعيد، لن أحكى شخصيات الكتاب لأنك لا بد أن تعاشرها بنفسك، وتشم رائحتها بنفسك، لا بد أن تعايش إحباطات وإخفاقات وإبداعات مثقفى مقاهى وبارات وفنادق وسط البلد، لا بد أن ترصد مع كاميرا مكاوى لحظات الجنون والنزق والشبق على الطاولات والموائد، فتات الذكريات وعصير المشاجرات التى كان أصحابها يصرخون وكأنهم يخططون لغزو العالم وتغيير الكون ودفع الوطن نحو التقدم وهم لا يستطيعون أحياناً دفع ثمن الكابتشينو الذى يحتسونه! مع مكاوى سعيد أنت لا تنظر من زاوية نافذة نصف مغلقة أو مشربية نصف مواربة على وسط البلد، ولكنك تراقب ويخترقك المشهد وأنت فى وسط الشارع تتفادى سيارة مسرعة أو على مقهى تدخن الشيشة أو فى كافتيريا توبخ الجرسون. وأنت تقرأ «مقتنيات وسط البلد»، أنت تضبط نفسك متلبساً بارتداء قناع التوافق الاجتماعى، أنت حتماً أحد هؤلاء الشخصيات حتى ولو ضحكت عليهم أو اندهشت من أفعالهم.