إذا كنت تريد أن تقرأ ملامح مصر الآن وتتعرف على تضاريسها النفسية والاجتماعية، فلتكف عن قراءة كتب الجغرافيا قليلاً واقرأ أحدث روايات خيرى شلبى!، رواية «أسطاسيه» أحدث وأخطر جهاز أشعة رصد أحشاء الوطن المضطربة، وقاس هشاشة عظامه التى قرضها الفساد وقرصها الجوع، وحدد أماكن ثانويات الورم الذى وزع نابالم الفتنة فى خلايا المخ والكبد والقلب، فصار جسد الوطن جثة!

أحياناً نطلق على الممثل البارع «غول تمثيل» لأنه يسرق الكاميرا من الجميع.. خيرى شلبى يستحق لقب «غول رواية» لأن كاميرا الوعى التى تطل من نافذة عينيه مفتوحة ٢٤ ساعة، ترصد وتسرق بالحلال، اللقطة واللفتة والإيماءة، فيصبح «روبن هود» الذى يسرق كنوز المعرفة والبصيرة ويسلمها إلى من تآلف مع المشهد ليفيق من ألفته وكسله وفقر مفرداته وبخل انفعالاته فيندهش ويصدم فيتحرك ويبوظ «الراكور»!، فى سباقات الماراثون يسلم المتسابق قبل خط النهاية عصاه إلى من يكمل المشوار، وقد سلم نجيب محفوظ عصا ماراثون الرواية إلى هذا العبقرى.. خيرى شلبى، فصار ديكنز مصر بلا منازع.

«أسطاسيه» أطول عدودة مصرية ملحمية تندب هذا المصير الأسود الذى تعدو إليه مصر داخل نفق الفتنة الطائفية المعتم، من يرد أن يتعامل مع الرواية على مستواها المباشر وحكيها الصريح فسيستمتع، ولكن من يرد أن يوسع الرؤية من تفاصيل الميكروسكوب إلى بانوراما التليسكوب ويبحث عن تأويل وتفسير المطمور والمتوارى والمختبئ من حفريات المعانى أسفل الطبقات الجيولوجية للرواية، سيستمتع أكثر ويفزع أكثر وأكثر!.. أسطاسيه أرملة جرجس غطاس، التى قتلوا وحيدها محفوظ الحلاق غدراً، هى ضمير القرية الذى يشويهم بنار الإحساس بالذنب، ضمير لا ينام ولا يكف عن الندب والصراخ، أرض الغطاسين استولى عليها البراوية، العائلة التى ينتمى إليها حمزة بطل الرواية، أقاموا «مَكَنة» الطحين بشراكة مع محفوظ جرجس اعتماداً على عقود وهمية، عتمان الجزار ناقم على المسيحيين، يسبهم ليل نهار ويتهم محفوظ بأنه قطع رزقه، انطلقت الرصاصة فى ظلام الليل لتستقر فى قلب محفوظ، لم يدرك أهل القرية أنها استقرت فى قلب استقرار البلد، طلبت أسطاسيه العدل الإلهى عندما خذلها عدل الأرض، ومثل التراجيديات اليونانية الكلاسيكية صبغ الدم صفحات الرواية، ما إن يبدأ فصل بمقتل شخص حتى ينتهى بمقتل آخر، انقطع نسل العمدة الدمية وشقيقه شيخ المنصر، انقلبت الأفراح إلى مآتم ومات العريس والعروس على الكوشة، حتى السيارة التى اُشتريت من الحرام كانت نذير شؤم، وحتى النعش الذى يحمل الجثة لم يستطع أهل القرية حمله، لأن يديه الخشبيتين انكسرتا وصار مثقلاً بالذنوب!

الرواية ليست قصة للتسلية فى السامر، ولكنها ملحمة تعصرك عصراً لتلمس الزلزال القادم بأطراف أصابعك، وترى الجثث مبقورة البطن منتفخة على سطح جلدك، ويخترقك المستقبل الأسود برائحته العفنة الذى ينتظر مصر لو استسلمت للراقصين على الجثث فى زار الفتنة الطائفية!

لابد أن تسأل وأنت تقرأ الرواية، عن أصحاب الأرض، عن الشراكة ومحاولة الغزو، عن «مَكَنة» الطحين التى من المفروض أن تمنحنا الخير فلماذا منحتنا الموت؟، عن نهاية القصة التى تلجأ فيها أسطاسيه إلى القانون الذى لابد أن يحكم بعيداً عن القبلية والتعصب ونفاق التيار السلفى الذى سيطر على المزاج المصرى وزيّف وعيه، لابد أن تسأل فى النهاية كيف يعيش بيننا من هو فى قامة خيرى شلبى دون أن نقبّل يديه وجبينه كل مطلع شمس؟