فى مجتمعات تفكر بالأمنيات لا بالحقائق يظل الناس فى حفل استقبال مزمن للمهدى المنتظر الذى سيملأ الأرض عدلاً وعلماً، وفى أوطان تعيش أحلام اليقظة لا معطيات الواقع يظل المواطنون يتعاطون الأوهام ويتصورون أن تخلفهم فضيلة وتقهقرهم انتصار على الحاقدين،

ونحن مازلنا نتمنى أن نسبق العالم الذى تجاوزنا بالكلام وبالقسم ليل نهار بأغلظ الأيمان أنهم حرامية سرقوا ما فى نصوصنا المقدسة من إعجاز علمى ونظريات فيزيائية ومعادلات كيميائية وحقائق بيولوجية، وحولوها إلى إنجازات، وأن الحل هو فى تفرغنا للبحث فى مكنون الأسرار اللدنية الإعجازية للإشارات العلمية حتى نسبقهم ونذلهم ونقول لهم هذه بضاعتنا ردت إلينا.

يؤكد الشيخ محمود شلتوت جوانب الخطأ فى اتجاه الباحثين فى الإعجاز العلمى للقرآن فيقول: «هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف، وهى خاطئة من غير شك، لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز،

ولا يسيغه الذوق السليم، وهى خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فى كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأى الأخير، فقد يصح اليوم فى نظر العلم ما يصبح غداً من الخرافات، فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفاً حرجاً فى الدفاع عنه، فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته».

صدقت يا شيخ شلتوت، يا من انتبهت وأنت خريج تعليم نظرى إلى نسبية العلم، والمدهش أن كبار دعاة اتجاه الإعجاز العلمى هم من خريجى الكليات العملية الذين درسوا وعرفوا نسبية العلم هذه وأيقنوا تغير نظرياته، ولكنه البيزنس للأسف الذى جعل من هذا الاتجاه منجماً للملايين التى تغدقها بعض الدول لصناعة الوهم وتدوير ماكينة الخداع الكبرى لبسطاء مازالوا يصدقون الأساطير ويعيشون زمن السحر.

اطلعت أمس بالمصادفة فى جريدة «الأهرام» على مانشيت عجيب يقول: «الرضاعة الطبيعية إعجاز علمى فى القرآن الكريم»!، تساءلت ما هى الآية التى تؤكد أن الرضاعة الطبيعية أفضل من اللبن الصناعى؟، وهل كان هناك وقت الرسول، عليه الصلاة والسلام، لبن صناعى أو حليب بودرة أصلاً حتى نعقد مقارنة؟!،

وماذا نقول عن الأمهات اللاتى جف اللبن فى أثدائهن أو ولدن أطفالاً عندهم أمراض وراثية تحتاج لبناً صناعياً وإلا ماتوا، ولماذا لم يسأل كاتب المقال نفسه من الذى اكتشف كل تلك الفوائد للرضاعة الطبيعية التى عدّدها المتحدثون؟،

إنهم علماء وأطباء الغرب الذين سهروا الليالى ونشروا الأبحاث وعقدوا المقارنات وصرفوا على الدراسات لكى يأتى كتبة المقالات وينسبوها إلى القرآن على الجاهز وينشروها كـ«مانشيت» نصفق له وننتشى منتفخى الأوداج ونصدق أننا الذين بحثنا وأنتجنا ودرسنا!.

هل نحن ننفخ فى قربة مقطوعة؟ مازلت على يقين بأن رهانى على المستقبل مضمون، فالعلم والعقل والمنطق لابد أن تكون لها السيادة والغلبة والنصر، لأن العكس موت وانقراض وتحنط، من الممكن أن يتأخر استقبالنا لفرسان العقل، ومن الممكن أن نرحل قبل دخولهم متوجين بأكاليل الغار، ولكنهم حتماً سيصلون لأن العلم صار قبلة الحياة لغرقى الوهم وإلا ماتوا جثثاً متعفنة على الشاطئ لا تجد حتى الكفن.