لا يلزم أن تكون يسارياً حتى تحب صورة جيفارا، أشهر صورة فوتوغرافية فى العالم، فهى أشهر صورة مطبوعة على الـ«تى شيرتات» فى العالم كله، من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، يطبعها الأمريكى الغنى الذى ينتمى للدولة التى طاردته فى أحراش بوليفيا، ويعشقها الأفريقى الفقير الذى يمثل جيفارا بالنسبة له رمز استقلال وأيقونة تحرر، وأيضاً يرتديها شباب الهيبز، والجينز الساقط، ومراهقون لا يعرفون عن جيفارا إلا أنه اسم مطعم شهير!.. صورة فوتوغرافية مدهشة وجذابة وغامضة، ورغم أنها بالأبيض والأسود فإنها تشع بريقاً سحرياً لا يقاوم، نظرة إصرار وتحفز وذكاء وغضب تطل من عينى هذا الثائر الأرجنتينى المتمرد، خصلات شعر تتطاير بفوضوية مغناطيسية محببة تقاوم القبعة العسكرية لطبيب يقاوم الاستعمار ومرض السل.

بحثت كثيراً عن اسم هذا العبقرى الذى التقط هذه الصورة حتى قرأت خبراً على النت يتحدث عن هذا المصور الأسطورة ويحتفى بذكراه، عرفت أنه المصور الكوبى ألبيرتو كوردا، الغريب أن الصور الفوتوغرافية لا تخلد أصحابها مثل لوحات الفن التشكيلى، يظل اسم المصور مجهولاً بالرغم من أن اللقطة هى اختيار ذكى وفن رائع لا يقل روعة عن الرسم، براعة المصور الفوتوغرافى هى فى الزاوية والضوء وإبراز روح صاحب الصورة لا مجرد ملامحه.. براعته فى سرعة بدهيته ولماحيته.

ماذا عن ملابسات التقاط تلك الصورة المذهلة؟.. كان عمر تشى جيفارا وقت التصوير أقل من ٣٢ عاما عندما كان يسير فى الخامس من مارس ١٩٦٠ كوزير للصناعة الكوبى فى مسيرة إلى جانب فيديل كاسترو، كان هدف المسيرة إحياء ذكرى مقتل عشرات العمال والجنود والبحارة الذين سقطوا فى ميناء هافانا، أثناء انفجار سفينة الشحن «لا كوبرى»، كان إلى جانبهما المصور ألبيرتو كوردا، الذى كان يصور كل شىء، بدءا من المسيرة فى الشوارع وحزن الكوبيين وغضب المحتجين ثم - وفى لحظة من اللحظات - ركز كاميرته على وجه تشى جيفارا والتقط صورتين له، المصور كوردا يتذكر ما التقطه، من صورة لا تمحى لجيفارا، بالقول بأنه لم تلعب المعرفة أو التقنية أى دور فى هذا المجال فقد كان الأمر - حسب قوله - مجرد مصادفة وحسن حظ كبيرين، فقد شاهد بريق حزم، وفى الوقت نفسه الألم والغضب يشعان من عينى جيفارا ولذلك التقط الصورتين.

المدهش أن المصور أعطاها لناشر إيطالى ولم يتقاض ليرة واحدة لقاء هذه الصورة العبقرية، حصد منها هذا الناشر الملايين بعد اغتيال جيفارا ١٩٦٧، وصارت الصورة رمزاً وتميمة وموضة.. لم تحظ صورة مثلها بمثل هذا الانتشار الرهيب فى العالم كله.. الأكثر غرابة ودهشة أن هذا المصور لم يكسب من هذه الصورة إلا عندما رفع قضية على شركة خمور لأنهم وضعوا الصورة كإعلان للفودكا.. كسب كوردا القضية ولكنه لم يفكر أبداً فى مقاضاة الناشر الإيطالى لأنه كان مؤمناً بأن هذه الصورة لابد من نشرها وترويجها، لتخلد هى ويخلد صاحبها. كما خلده كوردا فوتوغرافيا، خلده الرائع أحمد فؤاد نجم شعرياً فى قصيدة مليئة بالشجن يقول فيها: جيفارا مات، وامتد حبل الدردشة، والتعليقات، مات المناضل المثال، يا ميت خسارة على الرجال، مات الجدع فوق مدفعه جوه الغابات، جسد نضاله بمصرعه، ومن سكات، لا طبالين يفرقعوا، ولا إعلانات.