تعالوا نفترض فرضاً خيالياً، لو جعلنا قاضياً على كل صندوق وليس قاضياً فى كل لجنة، ولو صارت كل الصناديق شفافة، ولو أصبحت نسبة الحضور مائة فى المائة، ولم يحدث تزوير فى أى لجنة وسمحوا لكل منظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان وهيئات الرقابة الدولية ووسائل الإعلام بدخول اللجان، هل ستتحقق الديمقراطية الحقيقية؟ الإجابة للأسف: لا.

ديمقراطية صندوق الانتخابات مطلوبة بالطبع، لكنها لو حدثت دون علمانية الدولة وحرية الفكر ستصبح ديمقراطية منقوصة عرجاء ميتة إكلينيكياً!، هذه الديمقراطية، التى هى أقصى أمانينا ونتصور أنها مفتاح الجنة ونهاية المطاف وعصا الحل السحرية لكل مشاكلنا، هى ديمقراطية تغيير الطلاء، فعندما يكون السقف مشروخاً متآكل الخرسانة، والأعمدة هشة مخوخة، والجدران تقوضها نفخة ريح، تكون إعادة الطلاء وتغيير لونه مسألة عبثية.

ديمقراطية التصويت وصندوق الانتخابات فى بلد يتجه، رويداً رويداً، إلى كهف الدولة الدينية، التى يتآكل فيها القانون المدنى ويصبح فى حالة اختبار دينى يومى، هى ديمقراطية كفيفة لا تكفى لتقدم حضارة ولا تصلح لقيادة شعب فى دروب الحضارة الوعرة، دائماً نتساءل: هل هذا القانون يتماشى مع رأى الداعية أو الشيخ أو القسيس؟،

وهل هذه المادة تروق لهوى ومزاج الرأى العام المصرى الذى أصابته حمى الدروشة وعبادة الطقوس الشكلية؟، لا يمكن أن أطلق على بلد مازال المواطن يسأل عن دينه بالنظر فى بطاقة هويته وخانة ديانته، لا يمكن أن أطلق عليه بلداً ديمقراطياً ولو لم يزور فيه صوت واحد؟، لا يمكن لهذا الوطن أن يكون ديمقراطياً وهو يطارد الناس بسبب اعتقاداتهم الدينية وهم لم يحملوا سلاحاً لفرض هذه الاعتقادات بل مجرد اعتنقوها أو حتى كتبوها فى كتب؟!، يطارد الشيعى والبهائى والقرآنى وكل من يعتنق عقيدة أو مذهباً مخالفاً؟، وطن يمنع مسيحياً من وظيفة لمجرد أن دينه ليس دين الأغلبية، هو وطن لم يشم رائحة الديمقراطية حتى ولو راقبت انتخاباته قوات المارينز والطوارئ ونمور التاميل!،

وطن يمنع فيلماً لأن الشيوخ هاجموه أو يصادره لأن القساوسة غضبوا منه، ويمنع مسرحية لأن الأزهر رفضها، أو ينفى أستاذاً جامعياً ويفرق بينه وبين زوجته لأن مدرسته الفكرية لم ترق للتيار الدينى، أو يكمم أفواه كتاب وفنانين بتهمة الردة وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وطن يحتكر فيه البعض الحكم على إيماننا وضميرنا ويؤممون العقل والوجدان، هو وطن مازال فى «كى جى وان» ديمقراطية، مازال يحبو فى ملعب الديمقراطية حتى ولو صارت كل أصابعنا حمراء فسفورية!

وطن يعرض فيه كل مشروع قانون على رجال الدين بداية من زرع الأعضاء حتى إيجارات المساكن، هو وطن يرتدى قناع الدولة المدنية وهو يسلمها تسليم مفتاح للملالى ودولة الفقيه، وطن يستتر فيه مجرمون وقطاع طرق خلف لثام يسمى النقاب ويقف متفرجاً مذعوراً بدعوى أنه زى دينى فى نفس الوقت الذى يسن فيه القوانين لمنع زجاج الفيميه فى السيارات!، وطن هوية السيارات فيه أهم من هوية السيدات، هو وطن مازال يعيش داخل كهوف تورا بورا، ولو وزع على كل مواطن فيه قاض يوصله للجنة ويحرسه وهو ينتخب ويطمئن عليه بعد أن يضع الورقة فى الصندوق الشفاف ثم ينفحه عصير الليمون المثلج!،

دولة تعلن هويتها الدينية فى الدستور هى دولة لن تعرف طريق الديمقراطية، لا توجد دولة ديمقراطية لها دين، ولكن توجد دولة فيها مواطنون دينهم الدين الفلانى ومواطنون آخرون دينهم الدين العلانى، لا يعنى هذا أنها دولة كافرة، ولكنه يعنى أنها دولة لا تخلط الأمور، فالتقدم والحضارة الحديثة منذ عصر النهضة وببساطة شديدة لم تتحقق إلا فى ظل هذا الفصل العلمانى.