منذ أربعين سنة، كتبت د. عائشة عبدالرحمن، المعروفة بلقب بنت الشاطئ، فى جريدة «الأهرام» عدة مقالات تهاجم فيها المروجين لنظرية الإعجاز العلمى فى القرآن، التى كان رائدها حينذاك د. مصطفى محمود.. دارت معركة حامية الوطيس بين الاثنين واستخدمت فيها بنت الشاطئ مدفعيتها الثقيلة من الحجج المفحمة والمنطق المتماسك والتمكن الواثق والعلم الفياض والبلاغة الجميلة، مما جعل مقالاتها مرجعاً مهماً لا غنى عنه لكل من يتعرض لقضية الإعجاز العلمى، تم تجميع المقالات فى كتاب صغير الحجم، عظيم القيمة، أتمنى من مكتبة الأسرة إعادة طباعته، فندت بنت الشاطئ فى هذا الكتاب كل ما يستند إليه أصحاب نظرية الإعجاز العلمى وأثبتت تهافت نظرياتهم، انطلاقاً من حرصها على الدين وقدسيته، ولم يجرؤ أحد على أن يقترب من منطقة تكفيرها أو اتهامها بتشويه الإسلام، ذلك لأن بنت الشاطئ لا يستطيع أحد أن يزايد عليها فى إسلامها وتدينها وعلمها ودفاعها المستميت عن صحيح الدين.. بعد هذه المقالات ظن الجميع أن قضية الإعجاز العلمى قد حسمت، ولكن فى مجتمع يكرر نسخ أفكاره كل عشر سنوات ودائماً لا يحسم خياراته، هيهات أن تقول مثل هذا القول..

فالمجتمع المصرى مازال يمارس هوايته فى سكنى المربع رقم واحد وممارسة تمرين الجرى فى المكان، أطلت قضية الإعجاز العلمى بكثافة وإلحاح أكثر مما قبل، صارت للإعجاز مؤتمرات يصرف عليها مئات الملايين من الريالات، وصار له مريدون يهربون من الخواء العلمى الذى يعانى منه المسلمون ليرتموا فى أحضان وهم الريادة والزعامة والسبق، وصارت ترعاه أسر حاكمة تريد إلهاء شعوبها عن التفكير فى مشاكلها الحقيقية بإغراقها فى الغيبيات وإيهامها بأنها تملك شفرة العلم التجريبى فى سطور المقدس الدينى، وأن كل ما عليها هو أن تبحث بين هذه السطور عن نظريات الفيزياء ومعادلات الكيمياء، رغم أن الله قد أمرنا بالسير فى الأرض والبحث فى الواقع وقراءة الطبيعة والعالم.

صار رائد هذا الاتجاه المعاصر فى طبعته الجديدة د. زغلول النجار الذى ينتظر النظريات العلمية التى يكتشفها الغرب حتى يقول إنه بحث فى القرآن أو الأحاديث فوجدها متخفية فيما بين السطور، ولم نسمعه يفعل العكس فيخترع من النص المقدس القديم نظرية علمية جديدة لم يعرفها هؤلاء الأجانب الذين يضيعون وقتهم فى المعامل ويلهون فى مراكز الأبحاث، لذلك كان لابد أن نستدعى روح بنت الشاطئ فى أهرام السبعينيات لنرد على زغلول النجار فى أهرام القرن الحادى والعشرين.

ما كتبته منذ سنوات عن القضية نفسها هو نقطة فى بحر علم هذه السيدة الرائعة، أحتمى بقامتها العظيمة العملاقة من سهام التكفير المسمومة، فمن ينتقد كل من يناقش الإعجاز العلمى ويفنده يتم اتهامه بأنه غير متخصص، ماذا سيقول هؤلاء عن بنت الشاطئ.. هل سيتهمونها بعدم التخصص.. هل سيتهمون أستاذة التفسير فى كلية الشريعة بجامعة القرويين فى المغرب والأستاذة الزائرة فى الخرطوم والإمارات وبيروت والرياض بأنها غير متخصصة.. هل سيتهمون صاحبة جائزة فيصل وعضو مجمع البحوث الإسلامية بأنها غير متخصصة.. هل سيتهمون أهم من كتب سيرة نساء النبى، ذلك المرجع الذى يقتبس منه شيوخ الأزهر أنفسهم ويعتمدون عليه فى أبحاثهم بأنها لا تفهم فى الدين؟!

مع اقتراب ذكرى رحيل تلك السيدة الرائعة (١ ديسمبر)، سنقرأ معاً صفحات من أهم معاركها التى نحتاج إلى تأملها فى زمن البيزنس الدينى.