هل هى مصادفة أن يكون أكثر المسلسلات إعادة وتكراراً هو مسلسل «الحاج متولى»؟ فما أن ينتهى عرضه من قناة حتى تجده على قناة أخرى بمنتهى السرعة والحماس!، سألت نفسى وأنا أقلب تلك القنوات الفضائية، ما السر فى اجتياح هذا المسلسل لعقول الناس؟

من المؤكد أن مزاج معظم المشاهدين مضبوط على بوصلة المسلسل ورسالته الرديئة التى تجعل من تعدد الزوجات أمراً بديهياً مقبولاً مستساغاً، بل يتم التشجيع له والتحريض عليه وتقديم المبررات الهشة المفبركة لهذا السلوك مثل أن عدد البنات يزيد على عدد الرجال، أو أن طاقة الرجل الجنسية أكثر جموحاً من المرأة وتحتاج إلى التعدد.. إلخ، كلها تبريرات متعسفة لا تقنع حتى الأطفال، لذلك قررت التخلص من هجوم الحاج متولى ورائحته بقراءة رفاعة الطهطاوى والتعطر بفكره.

لم يكن رفاعة الطهطاوى رائداً للنهضة المصرية فى مجال ترجمة الفكر الأوروبى فقط، ولكنه كان رائداً فى مجال نهضة وتحضر العلاقات الاجتماعية، خاصة بين الرجل والمرأة فى مجتمع يحتقر المرأة ويتعامل معها على أنها عورة متحركة أو جارية متزوجة أو مفعول به أقل مرتبة من الدرجة الثانية، الوثيقة الشهيرة التى كتبها الطهطاوى فى زمن كان يبيح تجارة الجوارى والتسرى بملك اليمين والتى يأخذ فيها عهداً على نفسه بألا يتزوج على زوجته رفيقة عمره، هى وثيقة فى منتهى التحضر تسعى مصر بعد كل هذه السنوات إلى أن تصل لربع صيغتها التقدمية المناصرة لحقوق المرأة وفشلت حتى هذه اللحظة، ما أحوجنا الآن لقراءة هذه الوثيقة الرفاعية الطهطاوية.

كتب الطهطاوى: «التزم كاتب هذه الأحرف رفاعة بدوى رافع لبنت خاله المصونة كريمة العلامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى ولا جارية أيا كانت، وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء، أو تمتع بجارية أخرى، فإن تزوج بزوجة أياً ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين.

ولكنه أوعدها وعداً صحيحاً لا ينتقض ولا يحل أنها مادامت معه على المحبة المعهودة، مقيمة على الأمانة والعهد لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها، ساكنة معه فى محل سكناه، لايتزوج بغيرها أصلا، ولايتمتع بجوار أصلاً، ولا يخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء».

بالطبع من الممكن أن يكون للبعض تحفظات على تلك الوثيقة وأهمها عباراتها الفضفاضة التى تحتمل أكثر من معنى ومن الممكن تأويلها مثل أنه مادامت زوجته على المحبة المعهودة فسيفى بوعده!

وبالطبع معنى المحبة المعهودة وتفسيرها فى يد الزوج وحده، من الممكن أن يطلق على أى تصرف صغير بأنه خيانة للمحبة المعهودة، ولكن لابد أن نضع هذه الوثيقة فى سياقها الزمنى حتى لا نظلمها ونقلل من تقدميتها، وأيضاً لابد أن نضعها فى سياق تصرفات الطهطاوى نفسه وإنصافه للمرأة فى كل المجالات وأولها التعليم.

فهى ليست وثيقة قانونية كتبها فقهاء قانونيون لكى تصاغ بكلمات دقيقة قانونية جامدة وإنما هى رسالة حب أراد الطهطاوى أن يعلنها فى وجه مجتمع سجن المرأة خلف برقع وصادرها عقلاً وجسداً ومنعها من العمل وحجبها عن التعليم العالى بحجة الاكتفاء بالنزر اليسير الذى يجعلها تكتب وتحسب، وللأسف مازالت رسالة الحب تلك مدفونة تحت ركام تراب الحاج متولى.