أجبرتنا ظروف التخلف الفكرى والردة الحضارية التى نعيشها على اليأس من ظهور فقيه مجدد مجتهد يضخ دماء التنوير والعقلانية فى شرايين الدين، ظننا أننا فى انتظار «جودو» بطل مسرحية «بيكيت»، الذى لا يحضر أبداً رغم أنه محور حديثنا ليل نهار ومحطة انتظارنا فى الأربع والعشرين ساعة! إلا أننى كنت على يقين، رغم سطوة وسيطرة مظاهر تلك الردة السلفية المتزمتة على العقل المصرى، بأن هذا الفقيه قادم قادم لا محالة، بل هو موجود بيننا يحتاج فقط إلى أن نجهد أنفسنا فى البحث عنه.

صرخت كما صرخ أرشميدس «وجدته أخيراً»، عندما هاتفنى د. سعد الدين هلالى، أستاذ الفقه المقارن بالأزهر، بعد نشر مقالتى التى انتقدت تغليب القانون للدليل الفقهى على البصمة الوراثية أو «الدى إن إيه» فى مسألة تصحيح النسب، لم أتحمس له، لأنه وافقنى وأيدنى ولكننى تحمست له لعقلانيته فى البحث وهدوئه فى الطرح ومنطقيته فى التناول، كنت أحسبه متبحراً فى تلك النقطة فقط التى ألف فيها كتاباً كاملاً بعنوان «البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية»، لكننى وجدته مجتهداً فى معظم القضايا الخلافية، التى يخشى معظم الفقهاء الخوض فيها، ويرضون بمجرد التقليد والاتباع والبحث فى الهوامش والشروح، ولا يبذلون أى عناء فى تشغيل آلة الاجتهاد التى وهبها لنا الله وهى العقل، والأهم من مواجهة د. سعد الدين هلالى العقلانية لتلك القضايا هو أنه واجهها دون ضجيج ثأرى وصخب انتقامى أو شو مظهرى، ولكنه يواجه مواجهة العالم العارف الواثق المستعد لاستيعاب كل وجهات النظر.

تحولت تخميناتى وتوقعاتى إلى حقيقة وواقع حين شاهدته على شاشة التليفزيون فى حوار مع الإعلامى محمود سعد، الذى استضافه إلى جانب الشيخ خالد الجندى، كنت أود أن يستضاف د. سعد منفرداً، كى لا تضيع الحلقة فى مساجلات تنتقص من تركيز المشاهد الذى يحتاج لعرض وجهة نظر كاملة دون تشتيت، لذلك أطالب وزير الإعلام بأن يخصص برنامجاً لهذا الفقيه المجدد باسم «الاجتهاد»، وأن يرحمنا من الأسماء المكررة التقليدية، التى احتلت البرامج وعششت فى العقول، وتعاملت مع التليفزيون كعزبة وصارت «راكوراً» ثابتاً فى مشاهد وديكورات ماسبيرو!

أطلعكم على ما كتبه د. سعد بمناسبة قضية تصحيح النسب بالبصمة الوراثية. يقول الفقيه المجدد د. سعد الدين هلالى: «جاءت البصمة الوراثية بالمشاهدة الحقيقية للصفات الوراثية القطعية، دونما كشف للعورة، أو مشاهدة للجماع، ودونما تشكك من ذمم الشهود أو المقربين، لأن الأمر يرجع إلى كشف آلى مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية، فهل بعد ذلك يجوز أن نلتجئ لأدلة الظن ونترك دليل القطع؟!

وبعد ظهور البصمة الوراثية وانتشارها ومعرفة الفراش الحقيقى، فإنه يمكن لصاحب النسب المغلوط أن يستند إلى نعمة البصمة الوراثية، ويرفع بها دعوى تصحيح النسب، إن وسائل إثبات النسب ليست أموراً تعبدية حتى نتحرج من تأخيرها بعد ظهور نعمة الله تعالى بالبصمة الوراثية».

شكرا د. سعد الدين هلالى، وأكثر الله من أمثالك حتى تنزاح غمة التخلف والتشدد والتنطع.