«النهر مش حيفيض، الترع حتنشف، الأرض حتجف، الزرع حيموت، إن ماكنتوش حتعملوا حسابكم حتجوعوا، حتندموا، أنا كنت هناك عند المنبع وعارف كل شىء».. هذه ليست كلماتى بمناسبة اتفاقية حوض النيل وإنما كلمات العالم «باتانى» وهو شخصية من شخصيات فيلم «لاشين» الذى تم إنتاجه منذ 72 سنة وتمت مصادرته بعد أول عرض، وظل مصادراً حتى تغيرت نهايته التى كانت قتل السلطان بعد ثورة الشعب وخيانة الحاشية، فتحولت بعد تدخل الرقابة إلى إنقاذ السلطان بعد إعلان ولاء الشعب وسحق المؤامرة!!

تذكرت هذا الفيلم الجميل بمناسبة إصدار جريدة «القاهرة» لكتاب «خمسون فيلماً من كلاسيكيات السينما المصرية» للناقد على أبوشادى، وتذكرت المرة الوحيدة التى شاهدته فيها، فى العرض اليتيم الأول والأخير فى التليفزيون المصرى من خلال البرنامج الرائع «ذاكرة السينما»، عرفت أن الفن الجميل هو نبوءة، وأن عين الفنان الحقيقى هى عين زرقاء اليمامة التى ترى الخطر المحدق، بينما يغط رجال القبيلة فى نوم عميق، السلطة لا تهتم إلا بتقليم أظافر الفنان حتى لا يخربش على الحيطان، وقصقصة ريش أجنحته حتى لا يقوى على الطيران.

المخرج ألمانى يدعى كرامب، وكاتب حوار الفيلم الموحى الرائع مفاجأة لن يتوقعها القارئ، إنه الشاعر الرقيق أحمد رامى، تفاصيل الفيلم مدهشة ومرعبة ترسم نبوءة بلون الدم.

هل تعرفون مصير العالم «باتانى» الذى حذر الناس من الجفاف؟، علقت رأسه وسط هتافات هستيرية تصفه بالخائن، قتله رجال «كنجر» عميل المغول الذى يريد حكم مصر من خلال مؤامرة على السلطان الذى ينافقه ويدعى الولاء له، على الطرف الآخر هناك القائد «لاشين» الرجل الشريف النزيه المنحاز للناس المحب لوطنه والمخلص له، عندما زحفت المجاعة على مصر كان السلطان أمام اختيارين:

الأول قدمه كنجر بقمع الجماهير وإظهار البأس والقوة والبطش، والثانى قدمه لاشين بالوقوف مع الناس الجوعى العطاشى بتطبيق العدل، وعندما يقتنع السلطان برأى لاشين سرعان ما ينقلب عليه بعدما نجح كنجر فى اللعب على وتر الغيرة عند السلطان وإيهامه بأن جاريته ومحظيته تعشق قائد جيوشه لاشين.

اكتملت خيوط المؤامرة عندما اختلطت الأساطير بالوهم بتجارة فقهاء السلطان، عندما صرخ الفلاح يوسف بأن ما حدث ليس غضب النهر بل غضب الله ولابد ألا يجعلكم الجوع تكفرون بنعمة الله!، وهكذا استخدمت المبررات الدينية لتخدير الجماهير وتبرير قرارات السلطان وحاشيته وكبح جماح الثورة.. اجتاحت المجاعة الوطن وقتل الناس بعضهم على بقايا البلح، كل هذا والسلطان يلعب الشطرنج.

لا جدوى من صرخات لاشين، صموا آذانهم واتهموه بالخيانة، توالد حزب كنجر كالسرطان وانتشر أفراده كالوباء فى بر المحروسة، وأصاب العقم آل لاشين، وتحققت النبوءة وعاشت الرقابة حرة مستقلة.