شهوة اللغط والجدل حول موت المشاهير فى مصر انتقلت من الساسة والزعماء والفنانين إلى الأدباء والروائيين، فبعد مناقشة موت الرئيس جمال عبدالناصر، وهل مات بالذبحة الصدرية أم بفنجان قهوة سام، وبعد فتح ملف اغتيال الرئيس أنور السادات، وهل هو تخطيط خارجى أم مؤامرة داخلية، وبعد تأكيد عائلة عبدالحكيم عامر أنه ضحية قتل لا انتحار، وبعد ملفات أشرف مروان وسعاد حسنى.. إلخ، فُتح ملف مصرى جديد كنا حسبناه قد أغلق، ولم ندرك أننا بلد الملفات المفتوحة إلى الأبد، وهو ملف وفاة الأديب نجيب محفوظ!

والمدهش أن الذى فتح الملف بعد كل هذه السنوات من الصمت هى عائلة كاتبنا الكبير، أو بالأصح ابنتاه فاطمة وأم كلثوم، قيل على لسانهما فى البداية إن الإهمال الطبى قتل نجيب محفوظ، ثم خففتا اللهجة وقالتا إن العلاج المبدئى شابه بعض الإهمال،

وكان من الواجب علىَّ كطبيب أولاً، وكاتب يبحث عن الحقيقة ثانياً، أن أتحرى الحقيقة وأرفع الظلم الواقع على الأطباء المصريين الذين سرعان ما تنهال عليهم السكاكين بمجرد وفاة إنسان مشهور. أنا أعترف بأن منظومة الطب المصرى بها الكثير من العيوب التى تحتاج لثورة، ولكن لابد أن نعترف أيضاً بأن هناك من أساتذة الطب المصرى نوابغ وعظماء وأعلام يشار لهم بالبنان فى المحافل الدولية، فلا يصح أن نضع الجميع فى سلة واحدة .

لكى أجيب عن سؤال: هل قُتل نجيب محفوظ إهمالاً ولامبالاة من الأطباء؟

تحدثت مع الطبيب الذى أشرف على علاجه فى مستشفى الشرطة د. حسام موافى، أستاذ طب الحالات الحرجة بقصر العينى، والذى حكى لى القصة بالتفصيل.

قال لى د. موافى: إننا لابد أن نضع فى الاعتبار سن الأستاذ نجيب محفوظ الذى تعدى التسعين بكل ما يحدثه تقدم السن من تغيرات أهمها وأخطرها تصلب الشرايين، وأنه كان يتمنى من كل قلبه أن يجعله الله سبباً فى شفاء هذا الرجل العظيم، لأنه قامة أدبية تعلمت منها الأجيال وتعلم هو شخصياً منها الكثير والكثير مما شكل وجدانه وعقله،

ولا توجد ذرة إهمال فى علاج ومتابعة نجيب محفوظ، وما حدث هو أنه جاء إلى مستشفى الشرطة بفشل تنفسى وفشل كلوى وفى حالة شبه غيبوبة بعد وقوعه فى الحمام وارتطام رأسه فى الحوض، وحسب كلام د. حسام موافى فإن الفشل التنفسى حالة فى منتهى الخطورة من الممكن أن تقضى على من هم فى سن الخمسين، أما الفشل الكلوى فقد حدث لأن أديبنا الكبير كان يعانى مما نطلق عليه nephrosclerosis وهو تصلب شرايين الكلى، وهذه الكلى لا تحتمل أى هبوط فى ضغط الدم، وتدخل فى فشل كلوى سريعاً وتتدهور حالتها وتعلو بسرعة نسبة اليوريا والكرياتنين.

وأضاف د. موافى: لقد بذلت كل جهدى أنا وطاقم مستشفى الشرطة كله لعلاج هذا الرجل العظيم، ليس لأنه مشهور أو بسبب الخوف من الصحافة والمسؤولين، ولكن لأنه نجيب محفوظ. حرم د. حسام نفسه من أى إجازة صيفية وقتها بكل رضا ودون انتظار لأى مقابل مادى، كانت العناية فائقة لدرجة رفض أهل الأستاذ نجيب سفره إلى أمريكا حين عرض عليه الأمريكان ذلك، وكان السبب هو أنه يجد رعاية هنا لن تقل عنها هناك.

وبجانب د. حسام موافى فى الحالات الحرجة كان هناك طبيب مناظير من أفضل أطباء المناظير، وهو د. إبراهيم مصطفى، وأيضاً كان هناك د. أشرف حاتم، وهو واحد من نوابغ طب الأمراض الصدرية فى مصر. اجتهد الجميع ولم يدخروا جهداً فى سبيل إنقاذ أديبنا العبقرى، ومن الظلم أن نتهم هؤلاء بالتقصير أو الإهمال

ونضعهم فى قفص الاتهام بمانشيت جارح وسخيف يتهمهم بالقتل.

رحم الله نجيب محفوظ، ورحمنا من جرائم ومانشيتات السبق الصحفى.