خالد فهمى صديق عزيز هاجر من مصر منذ عشرين عاماً ولكن مصر لم تهاجر منه، هاجر ولم يهجر، حمل مصر معه فى عقله وقلبه، ظل الوطن بكل همومه داخل نخاعه، انقطعت بيننا اللقاءات بحكم ظروف السفر والعمل، ولكننى دائماً كنت واثقاً من عودته، كنت أتذكر مجموعتنا الجميلة التى اتفقت على أن تعقد جلسة ثقافية كل أسبوع يعرض فيها أحدنا كتاباً قرأه أو لوحة تشكيلية أعجبته أو عرضاً مسرحياً أو فيلماً شاهده وافتتن به.

كنا نعتقد، ونحن مازلنا طلبة أن العالم ينتظرنا فاتحاً ذراعيه، وأن الثورة الحقيقية ستحدث على أيدينا! وأن الحب ترف لا يليق بالمفكرين الثوار من أمثالنا! كانت أحلامنا بلا حدود، وتحليقنا بلا سقف، وجموحنا بلا خط نهاية، انفرط العقد وتفرق الرفاق، «أكمل صفوت» سافر إلى الدنمارك أستاذاً للأشعة العلاجية، وإلى البلد نفسه سافر «مصطفى قاسم»، أستاذاً فى بحوث الخلايا الجذعية،

وسافر «محمد إدريس» إلى بعثتنا فى الأمم المتحدة و«طارق سهمود» أستاذاً فى الإحصاء الطبى بأمريكا، و«زياد بهاء الدين» لمع نجمه فى هيئة سوق المال، وسافر «عماد القوصى» أستاذاً للأشعة فى قطر، أما «خالد فهمى» فقد حصل على الدكتوراة فى التاريخ من أكسفورد وسافر إلى أمريكا ليصبح أستاذاً لتاريخ الشرق الأوسط فى جامعة نيويورك، وأنا مازلت فى مصر أنتظر لمة الرفاق لبث الدفء فى أوصالى وروحى المنهكة ليلة شتاء ضبابية على أحد مقاهى سيدنا الحسين.

سعدت بعودة د. خالد فهمى إلى مصر، وسعدت بعرض الجامعة الأمريكية له برئاسة قسم التاريخ بها، سعادتى خاصة وعامة، خاصة انطلاقاً من أنانية الذكريات، وعامة لأننى أعرف طريقة تفكيره المختلفة المتفردة فى دراسة التاريخ المصرى، فهو يهتم بتاريخ الهامش، تاريخ ما أهمله التاريخ، منذ أن كان فى الجامعة الأمريكية وقرر أن يعمل فى مكتبتها وهو طالب،

عاشق للبحث فى الوثائق، يتمنى ألا تكون دار الكتب مخزناً لهذه الوثائق بل ورشة عمل لتفاعل الباحثين مع هذه الوثائق، يتمنى ألا يتعامل الموظف هناك مع الباحث من وجهة نظر أمنية وكأنه مخبر يتعامل مع حرامى، تؤرقنى مسألة التناول التاريخى وكتابته منذ أن كنا نجلس فى هذا الصالون الثقافى الأسبوعى، هل التاريخ هو سرد للمعارك والفتوحات والغزوات فقط؟ هل التاريخ هو تاريخ الحكام أم تاريخ المحكومين؟ هل ممنوع على الحرافيش أن يلوثوا قدسية هذا التاريخ؟ هل لابد أن تكون الوثائق محاضر اجتماعات الرئيس المصرى مع الرئيسين الأمريكى والروسى فقط، أم أنه من المسموح أن تكون النكت وصفحات الوفيات وثائق مهمة ترصد التاريخ؟!

تفاءلت بعودة خالد فهمى من أجل هذا التاريخ المهمل المهدر، منذ أن قرأت كتابيه «عن الجسد والحداثة» و«كل رجال الباشا» وأنا واثق من أن عودته واشتباكه مع الواقع المصرى لهما مردود مهم وفعال على دراسة التاريخ المصرى.. إنه مهتم بتاريخ الشوارع المصرية، مهتم بتاريخ المقاهى المصرية، له مشاريع مهمة مثل تاريخ الطب الشرعى فى مصر وتطوره، ومن هذا التاريخ سيفتح لنا نافذة العلاقة المعقدة المركبة المرتبكة بين السلطة والناس، لديه أيضاً مشروع دراسة تاريخ منطقة الأزبكية، ليست لديه خطوط حمراء يخجل منها دارس التاريخ المصرى، فحتى تاريخ النصب والدعارة على المقاهى لابد من دراسته، فالحقيقة لا تعرف من خلال المدينة الفاضلة، ومن المستحيل أن يكتبها سكان اليوتوبيا!

تاريخنا مازال صندوقاً أسود يحتاج إلى فك شفرته، وخالد فهمى معه الـ«باس وورد»!