بقدر انزعاجى من ادعاء القاضى السعودى المرتشى بأنه فعل كل هذا وقبض المائة مليون ريال ووضعها فى حسابه وهو تحت تأثير «جنى» تلبس جسده!، وبقدر صدمتى من اعتراف المحكمة أصلاً بوجود هذا الجنى وطلب شهادته!، وبقدر اندهاشى من إنصات المحكمة وتضييع وقتها فى سماع الراقى الشرعى، الذى يدعى أنه استنطق الجن الذى تلبس القاضى وسحره، وبقدر استغرابى من أن كل هذه الأحداث الكوميدية السوداء تحدث فى القرن الواحد والعشرين!،

بقدر سعادتى برد فعل المثقفين السعوديين، الذين هاجموا هذا التهريج وسخروا من هذا الهراء، مما يدل على أنه ثمة تغيير يحدث داخل النسيج السعودى وصراع ما بين الاستنارة ممن تعلموا فى الغرب وبين الوهابيين وهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبرغم أن هذا التغيير بطىء نتيجة لثقل وجسامة وطول مدة سيطرة الفكر الوهابى المتزمت على العقل السعودى، إلا أن ما كتبه هؤلاء فى الصحافة السعودية يمثل بارقة أمل ونافذة نور أمام مستقبل هذا البلد.

لكى يعرف القارئ المصرى خطورة وشجاعة ما يكتبه المثقف السعودى الآن، لابد أن يعرف أن كل هؤلاء المثقفين كان مفروضاً عليهم التزام الصمت أمام فتاوى صريحة من شيوخ وفقهاء كلامهم مقدس لا يستطيع أحد مجرد مناقشته، فضلاً عن استنكاره، وسأضرب لكم مثلاً بفتوى الشيخين عبدالرحمن السحيم ومحمد بن صالح المنجد ومركز الفتوى السعودى، التى هى مجرد قطرة فى بحر، اعترف الجميع فى فتاواهم بإمكان زواج الإنس من الجن، بل وإمكان الحمل والولادة من هذا النكاح!، فيقول المنجد إن هذا الزواج محرم عند الإمام أحمد ومكروه عند ابن تيمية ومباح عند بعض الشافعية! ولم يدر فى خلده إطلاقاً أن يستنكر هذا الخيال الجامح من أصله!

وتعترف الفتوى بإمكانية الحمل استناداً إلى أن أم بلقيس كانت جنية!، أما السحيم فيعتمد على ما قيل على لسان ابن عباس وأسند إليه فى قوله إن رجلا أتاه وقال إن امرأتى استيقظت وكأن فى فرجها شُعلة نار، فقال: ذاك مِن وطء الجن.

قيلت ونشرت كل هذه الفتاوى وأكثر منها ولم يحرك أحد ساكناً فى السعودية، أما الآن فقد تشجع المثقفون السعوديون وعرفوا أن هذه القضية لو نجح القاضى فى الإفلات منها فستكون هذه شهادة الوفاة للعقل السعودى، الذى سيدفن معه كل أمل للتغيير.

أقتبس بعض كلمات النقد الساخرة التى علقت على هذه القضية فى الصحف السعودية، كتب صالح الطريقى «وزارة العدل السعودية إن صدقت ما قاله القاضى المتهم ستجد نفسها مضطرة للتعاقد مع فرقة لفك السحر لحماية القضاة من السحرة، وبالتالى ستتحول محاكم المملكة إلى ساحة معركة بين السحرة وشياطينهم والمقرنين، الأمر الذى سيجعل المواطن لا يلجأ للمحاكم خشية من الأماكن المسكونة»،

وكتب خلف الحربى تحت عنوان «خاموش كركوش تزرع طماطم يطلع فتوش»: «قد فكرت فى الذهاب إلى المدينة المنورة للبحث عن المكان الذى دفن فيه هذا السحر كى أنبشه وأكتشف خصائصه، فلا شك أنه عمل محكم وإلا لما استطاع أن ينفذ إلى عقل هذا القاضى الجليل الذى يحكم بشرع الله!!»، وبارك حمود أبوطالب تحت عنوان «لا يا شيخ» للقاضى بمناسبة شفائه من «السحر» بعد هروب الوسيط الساحر فقال «يا عينى عليك يا سيدى القاضى، بعد الشر عنك، وسلامتك ألف سلامة وإن شاء الله عدوينك».