كعادتنا دائماً نتحرك بعد وقوع المصيبة وتحقق الكارثة، وعندما اجتمعت دول حوض النيل لمناقشة إعادة توزيع أنصبة المياه بطريقة مختلفة عن اتفاقية وقعت منذ 80 سنة تقريباً، ملأنا الدنيا صراخاً من المأساة المتوقعة، وبدأنا نتقرب من الأفارقة بحلو الكلام ومعسوله، وأحياناً بالتهديد والوعيد،

وفجأة تذكرنا أن هناك جزءاً من العالم اسمه أفريقيا، برغم أن ما يحدث الآن متوقع منذ عشرات السنين، وأى مواطن عادى، لديه أدنى درجات المعرفة، سيعرف أن هذا الغضب الأفريقى سيحدث لا محالة، ولكنها عادتنا المتأصلة ولن نشتريها، نحن بتوع آخر لحظة، وأصحاب التحرك على حافة الخطر، ولا نجرى من النار إلا إذا التهمت ذيل جلبابنا، حتى فوازير رمضان نظل نصورها قبل عيد الفطر!!

كنت فى كينيا أحضر مؤتمراً يناقش ختان البنات منذ عدة سنوات، وعند التسوق اكتشفت أن كل اقتصاد كينيا وتجارتها يتحكم فيه الهنود، وعندما كنت أسأل مرافقى عن قصر منيف على ربوة أو فيلا فخمة على الطريق كان يقول لى إن مالكها هندى، كل محال الشاى الفخمة الكبيرة، وكل معارض التحف والمصنوعات الخشبية الرائعة يملكها هنود، فى واحد من هذه المحال قال لى رجل كينى عجوز بصوت هامس مستنكراً غياب المصريين: أنا كنت باحب ناصر، وكان نفسى انتم اللى تاخدوا مكان الهنود عندنا!!

واصلت استمتاعى بالرحلة، أسأل عن السفارى وغابات كينيا، أنتظر رحلة الفرجة على الأسود والزراف والفيلة!!، أما كينيا الناس والبشر فأنا مجرد سائح، أندهش من آذان النساء الطويلة المتدلية، وأتعجب من نحافة الرجال، وأتخيل أن باقى السكان يسكنون أعالى الأشجار!!،

هذا هو مفهومنا عن أفريقيا، مجرد موطن للقرود ومصدر للعبيد والخادمات الحبشيات الأرخص من الفلبينيات، ننظر إليهم نظرة عنصرية، نرسل إليهم أردأ انواع الطائرات، ننفى إلى بلادهم المغضوب عليهم من الدبلوماسيين لنعطيهم واحداً على عشرة من راتب الدبلوماسى فى اليابان أو فى سويسرا،

نعامل طلابهم كما نعامل طلاب الخليج فى جامعاتنا ونطالبهم بمصاريف باهظة، باختصار نعاملهم أسوأ معاملة منذ نصف قرن، ونطالبهم الآن بالعشم والحفاظ على الوعود والاتفاقيات، لم نقدم السبت وفوجئنا بالأحد الأسود الذى يهددنا بالعطش.

دلوقتى افتكرنا أفريقيا!!، كنا فين من خمسين سنة، كنا نتخيل أن هذه البلاد عبيد إحساناتنا وأولاد البطة السوداء، كنا نتخيل أنهم يمنحوننا المياه لأنهم يتشرفون بأن مياههم تنزل من حنفياتنا!!، ويكفيهم فخراً أننا نقبل شربها والاستحمام بها وغسيل عربياتنا بالمياه المنبعثة من خراطيمنا الطاهرة.

أفريقيا عرفناها فقط عندما غنى عمرو دياب أغنية الدورة الأفريقية، نعرفها فقط كغاضبين وحانقين من جرأتهم وبجاحتهم فى الانتصار على فرقنا الكروية الشريفة العفيفة، نعرف أفريقيا فقط عن طريق سماسرة الكرة عندما يشترون أجوجو أو كوليبالى، هذه هى أفريقيا التى نعرفها أو فى الحقيقة التى لا نعرفها ولا نريد أن نعرفها.