تنبأ العبقرى يوسف إدريس قبل رحيله بأن حالة «التولة» الجماعية التى يعيشها الشعب المصرى ستزداد انتشاراً وشراسة، وكما أن الهيام والوله درجة أعلى من مجرد الحب، فالتولة درجة أعلى وأخطر من التغييب وفقدان الوعى، فالرجل المتوول رجل صاحى ومش صاحى، صاحى لكن مش مصحصح، صاحى لكن مش مستيقظ، عيناه تنظر ولكنها لا ترى ولا تشاهد، العين عنده مجرد كرة زجاجية تعكس كالمرآة الباردة، ولكنها لا تفسر ولا تحلل ما تنظر إليه، المخ لديه ينفذ رد فعل ويعكس رفلكس مثل عضلة تنقبض مع مس كهربائى، رغم أن يوسف إدريس لم يكن قد شاهد الفضائيات الدينية، ولم يكن قد عاصر اكتساح الترامادول، فإن نبوءته قد تحققت وصارت «التولة» حالة مستعصية.

تذكرت هذه النبوءة عندما قرأت خبراً عن نجاح ضباط الإدارة العامة لمكافحة المخدرات يوم الأربعاء الماضى، فى ضبط حاوية قادمة من دبى بميناء العين السخنة البحرى بداخلها مخازن سرية تضم ٢٨ مليون قرص ترامادول، مهربة فى شحنة أكواب «مج»، ثم نجحوا بعدها بيوم واحد فى ضبط حاوية ثانية تضم ١٦ مليون قرص ترامادول بالسويس تم إخفاؤها فى شحنة بكر لاصق، ولو عدنا بالذاكرة إلى أربعة شهور مضت سنتذكر الخبر الذى يقول: «تمكنت الإدارة العامة لمباحث الضرائب والرسوم من إحباط أكبر محاولة لتهريب كميات ضخمة من أقراص الترامادول المخدرة لداخل البلاد، كانت مخفاة داخل ٨ حاويات بميناء السويس، قدرت قيمتها بـ١٣٧ مليون جنيه، وقد ألقى القبض على المتهم الرئيسى، صاحب البطاقة الاستيرادية، وتاجر كبير يلقب بحوت الترامادول وهو من نبروه».

كتبت من قبل عن أن مصر أصبحت أكبر مستهلك للترامادول فى العالم، واستضفت كبار أطباء مصر للحديث عن أضرار إدمان هذا الدواء الذى لا يجده من يحتاجه فعلاً كمسكن، تفاعل معى وزير الصحة وأدخله كجدول أولى فى الصيدليات مثله مثل المورفين لا يصرف إلا بروشتة مختومة ويتم سؤال الصيدلى عن كمياته المثبتة فى الدفتر، ورغم كل هذه الاستحكامات والتحذيرات والمطاردات فإن الترامادول مازال هو المسيطر على سوق الإدمان المصرية، وما ضبطته الشرطة فى هذه الحاويات هو واحد على مائة مما يتسرب إلى سوق استهلاك الشباب، ويتناوله المصريون مثله مثل اللب والسودانى، إنها غيبوبة جماعية وموت إكلينيكى وطنى مع سبق الإصرار والترصد.

السائق يتناول الترامادول لكى يتحمل مسافات التريللات ومشاوير المقطورات التى تقاس بآلاف الكيلومترات، المراهق يبلبعها لعمل دماغ وتظبيط الجمجمة، الشاب يلجأ إليها كمخدر ينتشله من قسوة الواقع، الرجل يلجأ إليها كطوق نجاة وهمى لاسترداد فحولة مزيفة وإبقائه شهريار الذى لا يخجل من شهرزاد وهو يحلم بجنس لا يصدأ مع الزمن!، أصبح هناك ترامادول توزعه الصيدلية ويهربه التاجر،

وهناك أيضاً ترامادول تسربه الحكومة على هيئة تصريحات مسكنات، وهناك ترامادول توزعه فضائيات تدعى أن شاشتها تأخذك إلى الجنة، وهناك ترامادول يوزعه الإخوان ولكنه ليس على هيئة أقراص أو حقن ولكنه على هيئة شعار «الإسلام هو الحل»!، فيغسلون الأدمغة ويزيفون الوعى ويجعلونك تراهن عليهم وأنت فى انتظار الفرج الإخوانى، وكأنهم احتكروا الإسلام وأمموه لصالحهم، وهناك ترامادول يوزعه الأنبا بيشوى حين يخدر المسيحى بجدل عقائدى سقيم لصرفه عن مشكلاته الحقيقية، هناك ألف وجه ووجه للترامادول فى مصر، كلنا فى الهم ترامادول.