أصعب شىء أن تضطر إلى شرح البديهيات، وأقسى المهام هى مهمة تكرار ما شرحته من قبل والإلحاح على تفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، فالمنهج العلمى لم يعد رفاهية بل ضرورة، واتباعه صار من البديهيات، ولكنك للأسف مجبر على أن تصرخ بهذا النداء، والـ«دى إن إيه» صار حقيقة دامغة، وصار مفتاحاً لثورات علمية وكشوف كونية، ولكن المجتمع المصرى لايزال يغلب أدلة شرعية تنتمى إلى أكثر من ألف سنة على هذا الحمض النووى الذى عرفنا وتعلمنا أنه سر الحياة وشفرة الوجود.

الـ«دى إن إيه» هو المادة الوراثية التى تشكل كياننا وصفاتنا وهويتنا والتى لا يزيد وزنها على ستة من مليون مليون من الجرام، وبما أن كل فرد منا ينشأ من خلية واحدة، تسمى الزيجوت وهى ناتج التقاء الحيوان المنوى بالبويضة ثم يتضاعف الـDNA فى الخلايا لتصبح حوالى ستين ألف بليون خلية، وإذا جمعنا كل الـDNA للستة بلايين إنسان على كوكب الأرض فإن وزنه لن يزيد على ٣٦ ملليجراماً !!،

تخيلوا مادة بهذه الضآلة تتحكم فى مصائرنا وترسم خريطة أحلامنا ومستقبلنا وتثبت هويتنا، إنها ببساطة بصمة الحياة ولغزه فى الوقت نفسه، وهى تتشكل فى صورة لولب مزدوج من جديلتين أو ضفيرتين، كل واحدة من الجديلتين تتكون من سلسلة طويلة مؤلفة من تتابع أربع قواعد كيماوية يرمز لها بالحروف «الألف والثاء والسين والجيم»،

وهو تتابع متفرد يصل طوله فى الإنسان إلى نحو ثلاثة آلاف مليون حرف، يقسم عادة إلى كروموسومات، وعلى هذه الكروموسومات تقع الجينات أو ما نسميه بالعربية المورثات، وهى مقاطع من هذا اللولب، أحياناً يكون طولها مئات وأحياناً عشرات الآلاف من القواعد، وتتابع الحروف العشوائى والكم اللانهائى من التباديل والتوافيق فى التكرار والارتباط بين هذه الحروف الأربعة هو ما يصنع هذه اللغة البشرية العجيبة، التى تتكون من كل سكان الأرض، وكما أن لغة العرب ٢٨ حرفاً، فإن لغة الكون هى أربعة حروف فقط.

لنتذكر معاً بعض القصص التى نجح الـDNA فى فك ألغازها وغموضها، بالطبع أشهرها خوف وفزع كلينتون، حين وجد أن ملابس مونيكا الداخلية التى احتفظت بها ملطخة بسائله المنوى ستفضحه بعد أن تمت قراءة الـDNA من خلالها، واضطر الرئيس الأمريكى المبجل عازف الساكسفون أن يعزف عن لؤمه ويخرج عن صمته ويعترف، ففضل أن يفضح نفسه بيديه بدلاً من أن ينفضح على أيدى المحكمة التى لا ترحم، وغير حوادث الاغتصاب هناك التعرف على الجثث المشوهة والمحروقة وتتبع الأطفال والجنود المفقودين، وكلنا يذكر حادثة البوينج المصرية عام ٢٠٠٠، ح

ين تم التعرف على رفات ٢٥ جثة مصرية انتشلت من قاع المحيط، وأيضاً التعرف على جثث ضحايا مركز التجارة العالمى فى ١١ سبتمبر من خلال البصمة الوراثية، وبالطبع هناك جرائم القتل التى يترك فيها القاتل أثراً بسيطاً ولا يترك بصمات أصابع، أما إثبات البنوة فقد أصبح الـDNA هو البطل الحقيقى فى ساحات محاكم أغنى الدول وأفقرها،

ففى السودان على سبيل المثال لعبت البصمة الوراثية دوراً كبيراً فى قضية شهيرة اسمها (الحصاحيصا)، حيث كان هناك اختلاط فى طفلتين عمرهما يوم واحد سلمت القابلة كلاً منهما إلى الأم الأخرى، ولكن الدليل العلمى والـDNA كان هو الدليل الحاسم الذى ارتاح له ضمير المحكمة، أما قصة اكتشاف صدام حسين الحقيقى فى مخبئه من مسحة لعاب فهى أشهر من أن تحكى.

العلم يسبر الأغوار ويكشف الأسرار ويمنح كرمه وعطاياه لمن يستحق، ونحن لم نعد نستحق لأننا مازلنا نفضل الدليل الشرعى على الدليل العلمى.