نشرت جريدة الجمهورية يوم الجمعة ٨ أكتوبر خبراً صغيراً فى صفحة الحوادث عن حكم قضائى يُغلّب ما يسميه الدليل الشرعى على الدليل العلمى فى مسألة ثبوت النسب ورأيت أنه لابد من أن تطرح دلالات هذا الحكم للنقاش، وإذا كان ليس من حقى التعليق على أحكام القضاء، فإنه من حقى، بل من واجبى أن أطرح للنقاش القضية التى فجرها هذا الحكم، والسؤال الذى ألقاه مضمونها فى وجوهنا جميعاً، إذا تعارض الدليل الشرعى مع الدليل العلمى، أيهما نغلب وأيهما نتبع؟.

ملخص الخبر عن زوج أقام دعوى أمام محكمة الأسرة بالسيدة زينب يطالب بنفى نسب ابنته إليه، وقال إن أم الابنة زوجة له وفوجئ بأنها قيدت الابنة باسمه، رغم فترات تركها للمنزل وبعدها عنه فترات طويلة، وقد لاحظت عائلته عدم الشبه بينه وبين الصغيرة، مما دعاه لعمل تحليل الحامض النووى له وللصغيرة وانتهت هذه التحاليل إلى عدم نسب الصغيرة إليه وعدم وجود روابط وراثية بينهما، وطالب بنفى نسب الصغيرة، قضت محكمة أول درجة برفض الدعوى وثبوت نسب الصغيرة إليه بالفراش، طعن الزوج بحكم أول درجة واستأنف وقدم تقريرا آخر، رفضت المحكمة وقالت فى الحيثيات إن حكم أول درجة على سند صحيح لتوفر شروط ثبوت النسب بالفراش والزوجية الصحيحة، وأنه من المستقر عليه فقها أنه إذا تعارض الدليل الفنى مع قواعد الشرع الحنيف فى إثبات النسب غُلِّب الدليل الشرعى لدوامه واستقراره، فعلى فرض صحة الدليل الفنى وهو نتائج التحاليل، فإنه يتعين الالتفات عنه وطرحه جانبا إذا ما توفرت شروط ثبوت النسب، وعلى ذلك يكون حكم أول درجة على سند صحيح وليست هناك حاجة إلى إجراء تحاليل جديدة.

الجمل الأخيرة فى الحيثيات ليست مجرد أسانيد قانونية فى قضية عارضة تمر مرور الكرام، ولكنها رؤية مجتمع وفلسفة وطن فى التعامل مع العلم وأسانيده المفحمة المؤكدة، مجتمع يؤمن بأن الدليل الشرعى يغلب على الدليل العلمى، ووطن يطرح جانباً وبكل حماس وثقة أى أداة علمية تعينه على معرفة الحقيقة ولا يلتفت إليها!

، هذه ليست مجرد كلمات قضاة أجلاء نكن لهم كل احترام، إنها دستور أمة اقتربت بشدة من آخر متر فى ماراثون الدولة الدينية، فأى قاض فى مصر مظلوم، فأمامه نص يقول له الشريعة الإسلامية التى هى مصدر التشريع تعلن أن الولد للفراش أى أن الطفل ينسب لصاحب الفراش الشرعى، ولم يناقش أحد ما هو معنى الدليل الشرعى؟ وهل كلام الفقهاء مقدس لا يمس ولا يناقش؟ وهل لو وجدت وسيلة علمية حديثة لم تكن موجودة فى عصر النبوة أو فى عصر هؤلاء الفقهاء يجب ألا نستخدمها لأن الفقهاء لم يعرفوها وبالتالى لم يذكروها؟ هل عندما يقول ابن الجوزى إن الإمام مالك حملت فيه أمه ثلاث سنوات يصبح هذا تشريعاً نحطم معه ما يقوله السونار وتحليلات السائل الأمنيوسى وعدم وجود هذه المدة حتى فى حمل الأفيال!!،

ونهجر كلام العلماء الذى يؤكد أن المشيمة تفقد وظيفتها وتتليف وتتكلس فلا يتغذى الجنين عن طريقها ويضمر بعد أقل من ثلث مدة حمل أم الإمام مالك؟ هل لا نصدق كلام أطباء النساء الذين يقولون إن شيخوخة المشيمة يصاحبها رفع الفرامل عن الهورمون المسبب لانقباض الرحم وإجباره على لفظ الجنين؟! هل عندما يتحدث الفقهاء عن أهل الخطوة الذين يعيشون فى مكانين وزمانين مختلفين فى الوقت نفسه، يصبح حديثهم دليلاً شرعياً يسوغ ويبرر ويسمح لأى امرأة أن تدعى أن حملها السفاح قد جاء عن طريق واحد من أهل الخطوة الكرام، فتقره المحكمة لأنه دليل شرعى!!!.

تعالوا نتعرف على ما هو الـ«دى.إن.إيه» وهل يستحق الثقة؟