إن عشقنا فعذرنا أن فى وجهنا نَظَرْ.. لم أفهم ما يقصده الشاعر بشارة الخورى من هذا البيت حق الفهم إلا عندما وجدته على كتاب الفنان العبقرى محيى الدين اللباد، الكتاب اسمه «نظر»، ورغم أننى كنت قد اطلعت على معظم ما فيه فى مجلة «صباح الخير» من قبل، فإننى كنت حريصاً على شرائه رغم صعوبة البحث وقلة النسخ المعروضة..

عرفت من هذا الكتاب الرائع الذى صار سلسلة فيما بعد أن النظر ليس حاسة سلبية وإنما هو خالق ثان إيجابى للمشهد، النظر من الممكن أن يتربى، عرفت أن القبح يولد وينمو بداخلنا كالغول والتنين ويلتهم روحنا وضميرنا من الداخل بواسطة التربية البصرية الخاطئة التى نعيش فيها، التلوث البصرى يغتال الروح والضمير والعاطفة والحب والتأمل والإبداع..

اللباد الذى رحل عن عالمنا القبيح أمس كان فناناً بدرجة محارب عنيد، محارب للقبح المستفز الذى يحيط بنا ويحتل خلايانا ويسكن نخاعنا، كانت تستفزه شعارات الانتخابات الساذجة ورسومات مدرسى الرسم الفاشلة ولافتات الإعلانات الصادمة وواجهات المحال الركيكة وألوان العمارات الفاقعة وملابس النساء الملخبطة، كان على يقين من أن كل هذا التلوث البصرى لابد أن يفرز مواطناً مريضاً سلبياً عدوانياً، يخاصم الجمال، ويكره الفن والحياة والبهجة.

لم يكن اللباد رساماً للكاريكاتير فقط، بل كان معلماً أصيلاً لفن التذوق البصرى والجرافيك، كان ثورياً فى لغته البسيطة السلسة وخطوطه المميزة المتفردة الصديقة، كان ضد أن تألف العين وتتآلف مع القبح، ألّف سلسلة كتب رائعة: «نظر» و«كشكول الرسام» و«تى شيرت» التى أرجو أن تعيد طبعها مكتبة الأسرة، كان يخلق من العادى إبهاراً ودهشة، تذكرة الترام ومسحوق الغسيل وعلبة الكبريت وإعلان ميشلان وصورة سوبرمان والحرف العربى وطابع البريد وزجاجة الكوكاكولا وعلب السجائر.. إلخ، كنز من التراث البصرى الذى يشكل وجداننا، ناقشه وحلله وشرحه ولفت النظر إليه عبقرى اسمه محيى الدين اللباد.

شبّه الناقد د. على الراعى – نقلاً عن مصمم الجرافيك حاتم عرفة- نظرة الفنان اللباد الثورية لفن الكاريكاتير بنظرة الأديب «برنارد شو» لفن الكوميديا فى المسرح.. حيث رأى اللباد أننا: «نميل إلى تصوير الحمق والحمقى، ونسعى إلى عرض نوادرهم على الأنظار فى مختلف أشكال التعبير: الرسـم، والمسـرح، والحكاية والكرتون، ويلاحظ أننا بهذا الاهتمام نرفع عن أنفسنا الاتهام بأننا قد نكون - بدورنا – حمقى، ولكننا لا نريد أن نعترف بهذا، الواقع أننا كلنا حمقى ولا مجال للتفضيل بيننا وبين غيرنا فى هذا المجال»، وهكذا أصبحت الكوميديا والكاريكاتير أكثر إنسانية وأقرب إلى القلوب.

يقول اللباد: «اعتبار أن الفن هو فقط الموجود داخل البراويز هو سذاجة واستهتار بالتفاصيل. فليست الأعمال الكبرى فقط هى التى تؤثر فى الناس ووجدانهم، وإنما- وعلى العكس تماما- فالإنسان يتأثر جدا بالعلامات البصرية، والتى ضربت لك أمثلة عليها: زجاجة كوكاكولا.. علبة كبريت.. ماركة سجائر.. أفيش سينما.. مانشيت جريدة.. إلخ.

فهذه الأعمال تحفر نوعا من العلامات فى الذاكرة»، ويقول: «هناك مقولة مهمة للفنان النحات (محمود مختار) يقول فيها إن العملة النقدية هى قطعة النحت التى تصل للرجل الفقير الذى لا تتاح له فرصة مشاهدة المعارض الفنية ولا يحضر إلى المدينة لرؤية التماثيل، ولابد أن تتضمن هذه القطعة قدرا من احترام العقل والمنطق واحتواء رسالة إنسانية، لأن هذا يبنى - ودون أن يعى الناس - منطق بلد كامل».