«ساعدنى يا رب، فأنا لا أملك غير هذا»، تلك كانت صرخة مارتن لوثر فى كتابه «وجبة الديدان» حسمت الخط الفاصل ما بين الدين والعلم والتوقيت الصحيح للاختيار واللجوء إلى أحدهما، مارتن لوثر الحائر الجائع روحياً يحتاج فى تلك اللحظة المعينة والمحددة مساعدة روحية، يطلب طوق نجاة فوق طاقة العلم، أو بالأصح خارج مجاله، اضطر إلى السباحة خارج مياهه الإقليمية ونادى وناجى الرب، لكن كل هذا داخل رواق الدين المنفصل تماماً عن رواق العلم، الرواقان متمايزان منفصلان كما وصفهما ستيفن جاى جولد فى كتابه «صخرة الزمان»، هما متمايزان ومنفصلان ليس بمزاجنا ولكن لأنهما لا بد أن يكونا كذلك، لا تجلس فى رواق العلم مرتدياً ثياب الكاهن أو عمامة الشيخ أو قبعة الحاخام، وكذلك لا تجلس فى رواق الدين ببالطو المعمل، ولكن داخل كل رواق عليك بالحوار وإثارة الأسئلة لأنه فى النهاية هو رواق يسمح بالأخذ والرد، لا تخدع نفسك بأنك ما دمت فى رواق الدين فكل ما فيه ثوابت لا تقبل المناقشة والتجديد والتغيير، وأيضاً فى رواق العلم يجب ألا تكون تجاربك متحررة من أى قيد أخلاقى كأن تستخدم البشر مثلاً فى مغامرات بهلوانية لمجرد استعراض العضلات، فالدين ليس نصوصاً سرمدية ملغزة، والعلم ليس معادلات جامدة مطلوبة لذاتها، ومنهج هذا لا ينفع مع ذاك، ومشاعرك الداخلية فى رواق الدين يجب ألا تنقلها «كوبى بيست» أو «قص ولصق» داخل رواق العلم، فخلط هذا بذاك هو بمثابة ارتداء مايوه فى الأوبرا، أو استخدام عوامات لمساعدتك على تذوق السيمفونية!، لذلك فإن التهم والإدانات التى توجه من أغلبية المسيحيين لـ«توما» الشكاك الذى طلب أن يرى المسامير فى يدى المسيح للتأكد من قيامته، هى تهم وإدانات لم تجد العذر ولم تتفهم الموقف أو تشخصه التشخيص الصحيح، إن توما التلميذ الشكاك كما يطلقون عليه خلط الرواقين كما قال «ستيفن جاى»، ويجب أيضاً على من أدانوا توما ألا يستخدموا رد المسيح الذى قال «طوبى للذين آمنوا ولم يروا»، يستخدمونه لترويج معجزات طبية أو فيزيائية خارقة لبعض الكهنة أو الظواهر وتمريرها على العقول بتسخيف العلم والاستهانة بقوانينه المنضبطة، فما قاله السيد المسيح يستخدم فى رواق الدين ومنهجه وآلياته، ولكن لا يجب رفعه كفزاعة فى وجه طبيب يتساءل عن كيفية علاج امرأة كفيفة بمجرد تمتمات لكاهن، أو فيزيائى يستنكر تحريك شىء من مكانه بمجرد النظر... الخ، ومثلها مقولات إذا كان الدين بالعقل لكان مسح الخف من الأسفل أو العبرة بعموم اللفظ أو لا تجادل يا أخى أو لحوم العلماء مسمومة... إلى آخره من كروت الإرهاب التى ترفع من المشايخ فى وجه كل من يطرح سؤالاً أو يستفهم عن سبب، وكثيراً ما يواجه العلماء أزمات روحية عميقة تضربهم فى الصميم ومن الممكن أن تسبب لهم زلزالاً وجدانياً رهيباً، وهذا مشروع ومحتمل فالعالم ليس من فولاذ ولم ينحت من جرانيت، لكن بعض العلماء سرعان ما يستعيدون رباطة جأشهم وتوازنهم النفسى خاصة عندما يكون العالم مسلحاً برؤية فلسفية عميقة وخبرة حياتية كبيرة، وداروين وصديقه هاكسلى هما خير مثال، فداروين بالرغم من فقدانه ابنته التى كان يعشقها إلا أن نظريته التى كان يعكف عليها ظلت فى إطار بحث ما هو على الأرض وتطورات المخلوقات التى تسكنها، لم يشغل باله بالكيفية التى خلقت بها تلك المخلوقات، وتتحول طاقة الغضب عنده إلى وضع نظرية تثبت العبثية أو تنسبها إلى ما يطلق عليه نظرية الخلق، لكنه لم يفعل، كذلك صديقه هاكسلى الذى كانت له صولات وجولات وصلت إلى حد التراشق والمشاجرات مع القساوسة، هاكسلى فقد ابنه فجأة على عكس داروين الذى فقد ابنته بعد صراع مع المرض، لم يحكم بنفى الدين بعد أزمته ولكنه كتب بعد تلك الصدمة القاصمة خطاباً إلى صديقه القس شارلز كنجزلى محتفظاً بهذا الفصل بين الدين والعلم وبأن لكل منهما مجاله قائلاً «أرى من واجبى أن أترك أمنياتى لتتشكل طبقاً للحقائق، وليس بذل المحاولات لجعل الحقائق متماشية مع أمنياتى، عليك أن تجلس أمام الحقيقة كطفل صغير، مستعداً لاستبعاد كل الأفكار المسبقة، وحيثما وأينما تقودك هاوية الطبيعة، فاتبعها بكل تواضع وإلا ما تعلمت شيئاً».. لكن هل الحقيقة الدينية هى نفسها الحقيقة العلمية؟ بالطبع لا، الحقيقة الدينية ليست اكتشافاً بل اقتناعاً، لا ينقب عنها بالأظافر بل هى عند متناول يدك، ما عليك إلا أن تمدها لتأخذها من مكانها كما وضعها القدماء.. المشكلة هى هل من حقك أن تمسح عن تلك الحقائق ركام تراب السنين؟ رجال الدين يقولون لك خذ تلك الحقائق بأتربتها، بكل ما علق بها من ركام السنين، لو أدخلت تلك الحقائق فى تفاعلات إضافة أو حذف أو تكوين منتج كيميائى دينى جديد يناسب العصر والزمن، لو فعلت ذلك سيتم تكفيرك أو ستتهم بالهرطقة أو الخروج عن الناموس أو هتك الأسرار أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة... الخ، كل دين يخترع ضدك مصطلحات لتوصيف فعلتك الشنعاء، رواق الدين رواق قراءة وتلقين لا رواق إبداع وابتكار، وهذا ليس عيباً، لكن العيب هو فى قراءة المغيب لا قراءة اليقظ، والجريمة هى أن تتحول إلى وعاء ومخزن لتغذية التلقين بدون سؤال عن تاريخ صلاحية تلك الأغذية، وهل هى أغذية أم فضلات، وكما يجلس إلى جانب العلم فى رواقه ممارسات العلم بصالحه وطالحه بما فيها العلم المزيف الذى يرتدى ثوب العلم وهو منه براء، كذلك يجلس إلى جانب الدين فى رواقه التدين أى الممارسات البشرية الصالحة والطالحة أيضاً والمنطلقة من فهم هؤلاء البشر للدين، وكما عرف د.عبدالجواد ياسين الدين والتدين فى كتابه وفرق بينهما ص 347 «الدين فكرة كلية متعالية ومقبلة من خارج الاجتماع، أما التدين فهو تجليات هذه الفكرة كما تظهر فى الاجتماع عند الممارسة»، والغريب أننا الآن نخلط بين الرواقين العلمى والدينى، أو كما نقول بالعامية «أبوقرش على أبوقرشين»، بينما عند إنشاء الجامعة الأهلية التى صارت جامعة القاهرة ومنذ أكثر من مائة سنة تنبه أحمد لطفى السيد التنويرى العظيم فى دستورها إلى هذا الفصل بين الرواقين وقال عن المنهج العلمى الذى سيحكمه فى الجامعة «حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل ما يقال»، تداخُل هذين الرواقين ومحاولة جلوس الشخص فيهما فى الوقت نفسه هى محاولة مستحيلة، من الممكن أن يسكنه الاثنان متجاورين ولكن لا يسكن هو المجالين متداخلين، يسكنه العلم والدين ويستخدم هذا فى المعمل وذاك فى المعبد فى وقت الحاجة إليه، والتفكير فى تفاعلات المعمل بمنهج الدين ليس تديناً بل هو امتداد للمنهج السحرى كما يطلق عليه د.صلاح قنصوه، ذلك المنهج الذى يقوم على دعامتين الأولى استخدام الألفاظ بوصفها أقانيم مقدسة، رقى وتعاويذ تحل المشاكل بمجرد ترديدها، الدعامة الثانية هى التعريف المستعار للواقع الذى لا يواجه المشكلات الفعلية بمنازلتها فى مجالها الأصلى بل يلوذ بمجال أو أفق بعيد آخر، إذن نحن لا نضع العلم فى مواجهة الدين لأنهما ليسا فى الساحة نفسها ولا يقفان فى حلبة مصارعة أو حلقة ملاكمة، نحن نختار ما بين منهج العلم ومنهج السحر فى حل المشكلات، وإذا كان إنسان الكهف قد اعتمد على السحر قديماً فظل لا يبارح كهفه فليس مطلوباً من إنسان الإنترنت أن يواصل ذلك السحر ليعود إلى الكهف نفسه.