كل تجار القماش فى الدنيا مهمتهم أن يغطوا أجسادنا إلا هذا التاجر فهو الوحيد الذى كانت مهمته التعرية والكشف!!، إنه الهولندى أنطون فان ليفنهوك الذى عرى جهلنا وكشف قصورنا والذى احتفل «جوجل» بعيد ميلاده أمس، ليفنهوك المولود فى 24 أكتوبر 1632، فى القرن السابع عشر حيث يتوجه الجميع إلى الاكتشافات الكبرى الضخمة، إلى خارج مدينتهم الصغيرة حيث يبحرون إلى القارات المجهولة، خارج كوكبهم الضئيل حيث يراقبون السماء والنجوم، خارج محيط أجسادهم الواهنة حيث البحار والفلك والغابات والأحراش، قرر ليفنهوك أن يبحر عكس التيار ويغوص إلى الداخل حيث الأشياء الدقيقة، لم يبحث عن الضخم المرئى بل بحث عن الضئيل غير المرئى، هوايته فى جلخ الزجاج ودأبه الذى لم يتسرب إليه الملل يوماً ما وفضوله العاصف لاكتشاف الأسرار، جعلته يصنع نحو 400 عدسة مكبرة وحواملها وبالتباديل والتوافيق صنع الميكروسكوب الذى بلغت قوة تكبيره 270 مرة، هنا انفتح له باب الفردوس المفقود ولمست عصاه السحرية شفرة السر ولغز الحياة وعالم العلم الممتع، عاش تسعين سنة من الفضول المزمن، عرى جهلنا المقيم وكشف عن خرافاتنا المطبوعة كالوشم فى عقولنا المغروسة كأنياب الضبع فى أرواحنا، كنا نظن الأمراض من الجن والشياطين وكنا نظن الكائنات الدقيقة التى تسببها تتوالد تلقائياً، اكتشف الميكروب وقدم تفسيراً كان ثورة فى حينها حين رفض أن السوس يتوالد من الحبوب وأن يرقات الذباب تتوالد من اللحم أو الرمل.... إلخ، وأن هناك بويضات ودورة حياة منفصلة لتلك الكائنات، لم نكن نفهم ما هى مكونات قطرة الدم وقطرة الماء، جاء ليفنهوك بمجهره العجيب تتلبسه روح الفضول العلمى، يجرح نفسه ليشاهد قطرة الدم تحت الميكروسكوب، لم يخجل أن يراقب سائله المنوى حتى يشاهد كائناً جديداً لم يكن معروفاً من قبل وهو الحيوان المنوى وكشف كل أساطير وأوهام ما قيل عن طريقة الإخصاب والتلقيح، أصابه جنون اكتشاف كل ما تطاله يداه، شعر الإنسان.. قطرات الدم وقطرات الماء.. أجنحة وسيقان الحشرات والأنسجة الجلدية والعضلية، اللعاب والمخاط والمنى، أوراق النباتات وفضلات المستنقعات.... إلخ، واصل الليل بالنهار، خاصم النوم، أرسل ما يقرب من الـ400 رسالة علمية إلى الجمعية الملكية الهولندية والبريطانية، لم يخرج من متجره ولم يهجر مجهره أو يغادر معمله، لم يتقن إلا اللغة الهولندية، ظل راهباً فى محراب الفضول العلمى، صار قبلة سياحية فى أمستردام، زاره قيصر روسيا وملكة إنجلترا وكبار ساسة أوروبا ليشاهدوا من خلال ميكروسكوبه العجيب أسرار الحياة وغرائبها، بلغة العلم الأكاديمية المحايدة من الممكن أن نسرد إنجازاته سريعاً، شرح ليفنهوك مسار الكريات الحمراء فى البلازما، وفى شعيرات أذن الأرنب والضفادع، وأظهرت مشاهداته لقطرات المطر ولعاب الإنسان وجود الحيوانات الدقيقة التى تعرف حالياً بوحيدات الخلية والبكتيريا والتى سماها الحيوينات، كما بين وجود نوعين من النطاف فى بعض أنواع القشريات تحدد الجنس.. ووصف ليفنهوك دورتى حياة النمل والمن، كما وصف أنسجة نباتية لساق أحادية الفلقة وثنائياتها، ووصف النقاعيات والدوارات، وبراعم الهيدرا، ودوران الجنين فى بيض بلح الماء العذب، ووصف العضلات الهيكلية وبنية الأسنان، وعدسة عين الحيوانات الراقية، والعين المركبة للحشرات، كما أعطى وصفاً لثلاثة أنواع من البكتيريا (العصيات، والمكورات، واللولبيات)... إلخ، لكن بلغة التاريخ فإن ليفنهوك هو حياة حافلة ونشاط مذهل ولحظة فارقة فى رحلة العلم، إنه لا يستحق فقط من «جوجل» الاحتفاء بل من كل العالم خاصة من بلادنا التى سكنتها كراهية العلم.