نشرت «أخبار الأدب» مقالاً للصحفى أيمن الحكيم يتناول واقعة مدهشة لها دلالة مهمة، لقطة عجيبة تمنحنا وتعلمنا دروساً لا تنتهى حول أهمية الفن والإبداع فى محاربة التطرّف والإرهاب، وكيف أنك بالفن تستطيع أن ترتقى بالذوق والضمير والوجدان، بحيث لا يمكن لمن تشرّبت روحه بهذه القيم الرفيعة أن يحمل سكيناً ليذبح، أو قنبلة ليفجر، أو كلاشينكوفاً ليغتال ويقتل، الواقعة ملخصها أن متهماً فى جريمة محاولة قتل نجيب محفوظ أرسل اعتذاراً إلى أديبنا الكبير من داخل السجن ورد عليه نجيب محفوظ بتليغراف صافحاً عنه، بل سعى «محفوظ» إلى الإفراج عنه، وعندما فشل طالب بنقله من سجن العقرب الرهيب إلى سجن طرة الأكثر رفاهية أو الأقل قسوة!!، بالمقاييس والمعايير العادية الطبيعية التى نتعامل بها كبشر لا كملائكة، لا يمكن أن يتصور أحد أو يتخيل أنه لو حاول مجرم ذبحك من الوريد إلى الوريد وفشل فى اغتيالك أن تسامحه بعد ذلك، فإحساس الانتقام والثأر المفروض أنه إحساس فطرى طبيعى غريزى مقبول وغير مدان فى حياتنا وتعاملاتنا الإنسانية، خصوصاً بعد الجرائم التى مع سبق الإصرار والترصّد وغرضها إنهاء حياتك وقطع دابرك من الدنيا، شعور غير مستنكر أو مستهجن، خصوصاً أن ملابسات الحادث العبثية الشريرة تقود إلى قرار واحد، وهو أن هذا الصعلوك القاتل يجب تمزيقه بأسنان نجيب محفوظ ومحبيه ومريديه فى مكان الحادث نفسه، جراء ما فعله فى شيخ عجوز رقيق وثق به عندما مد إليه يد المصافحة، فصدّق الرجل بكل طيبة وبراءة أن هذا الشاب المجرم من ضمن معجبيه، إذا به يستل السكين بغدر متأصل فى تلافيف روحه ويطعن نجيب محفوظ فى رقبته جرحاً غائراً بتر الشرايين والأوردة والأعصاب، انطلقت نافورة الدم من عنق أديبنا المتبتل فى محراب الرواية وأطلق المجرم الجاهل النذل ساقيه للريح واختفى، ولولا أن محاولة الاغتيال تمت أمام مسكن «محفوظ» المواجه لمستشفى الشرطة، وكان برفقته صديقه ومعه سيارته، ولولا العناية الإلهية التى أرسلت الجراح الماهر د. سامح همام فى دقائق قليلة، لولا هذه الصدف، لكان قد نزف على الرصيف حتى الموت، هذا المجرم كان السبب فى اكتئاب نجيب محفوظ وشلل يده التى باتت الكتابة معها نوعاً من العذاب اليومى، صار «محفوظ» بسبب هذا الأفاق الجاهل هيكل إنسان، المدهش أن المجرم لم يقرأ حرفاً لنجيب محفوظ، وأنه كان يُنفّذ فتوى عمر عبدالرحمن بإهدار دم نجيب محفوظ، الذى كفّره أمام الجهاديين، ومن قبلها فتوى الشيخ كشك بسبب «أولاد حارتنا»، وهى واحدة من أعظم الروايات التى أنتجتها القريحة العربية على مدى العصور، كل هذا الكوكتيل الدراكيولى، ثم يأتى نجيب محفوظ ليتعامل بتلك الرقة والدماثة والتسامح والرقى مع مجرم جاهل شرير سيكوباتى متطرف يتحرك بالريموت كنترول!!، السبب هو أننا أمام مبدع حقيقى معجون بالفن، فيلسوف يجد الأعذار للآخرين، بانورامى النظرة، شمولى الرؤية، رحب الصدر، مسام عقله منفتحة على الدوام لكل اختلاف، نجيب محفوظ الذى عشق «عبدالوهاب» و«أم كلثوم»، وكان مفتوناً بالعزف على آلة القانون، المبتهج، سريع البديهة، محب النكتة، فارس القافية، كل هذه الصفات ستُعجن وتُخبز وتُصهر وتُخرج لنا تلك الشخصية المحفوظية المبهرة الثرية التى تعفو وتسامح وتصفح، البلاد تتقدم حضارياً ونفسياً واجتماعياً ويرتقى وجدانها ويهذّب ضميرها بعدد النجباء المحفوظين الذين تنجبهم وتعلمهم، فيهدونها هذا النوع من التسامح والجمال، لذلك علينا أن نركز فى مدارسنا وقصور ثقافتنا ومسارحنا على تعليم الفن لأولادنا، فهو طوق النجاة لإنقاذ الأجيال المقبلة من الانخراط فى عصابات الإرهاب، لا بد أن نُعلّم كلاً منهم درس نجيب محفوظ الذهبى «كن نجيباً فى إبداعك تكن محفوظاً فى إنسانيتك ومحافظاً عليها».