رحل أمير متحدِّثى العربية فى ذكرى ميلاد أمير شعراء العربية. رحل فاروق شوشة فى عيد ميلاد أحمد شوقى، وكأنه يأبى إلا أن تكون ذكراه معطرة ببلاغة معشوقته الأولى اللغة العربية. رحل الصديق والأخ الأكبر وابن قريتى «الشعراء»، التى صارت اسماً على مسمى منذ أنجبت هذا الشاعر الجميل النبيل عف اللسان المتعفف والذى كان سلوكه راقياً رقىّ لغته، ورقته من رقة شعره. عشنا على ضفاف حنجرته الرخيمة وعزفنا على أوتارها المشدودة بإبداع إلهى متفرد، تعلَّمنا حب اللغة فى محرابه، هذَّبنا الروح وغسلنا الأذن عبر الأثير مع كل انطلاقة ومقدمة لـ«لغتنا الجميلة» قبل منتصف كل ليلة، تصعد بنا عبر مسارات السحر ودروب الجمال، نسكن أبيات الشعر ونتدفأ فى قوافيه، شهدنا معه صغاراً أمسيته الثقافية على شاشة التليفزيون، تلك الأمسية الكنز الذى لا ينضب، أكبر منجم ثقافى يمتلكه التليفزيون المصرى الآن، كان برنامجه وزارة ثقافة بلا كرسى فى مجلس الوزراء، شاهدنا فيه توفيق الحكيم وزكى نجيب محمود ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ونزار قبانى وكل قمم ونجوم الثقافة فى العالم العربى. كان يتحدث اللغة العربية الفصحى حتى عندما «يهزر» ويلقى النكت!! كان عندما يتلفظ بحروفها بسلاسة مدهشة إعجازية لم تتوفر إلا له ولطه حسين، تحس أن كهرباء سحرية مغناطيسية هائلة قد جذبتك وأجبرتك على الصمت خاشعاً فى محراب هذا الراهب القديس، حتى الإدارة التى سعت إليه ولم يسعَ إليها عندما ترأس البرنامج العام والإذاعة، حتى تلك الإدارة وذلك المنصب مارسه بروح الشاعر المحلق، لم يسمعه أحد طوال عمله فى الإذاعة منفعلاً أو رافعاً صوته على فرّاش أو ساع، إنسان شطب من قاموسه كلمات الزعيق والصراخ والسباب والغل والحقد... إلخ، كان حباً وتواضعاً ودماثة خلق وسمو روح يمشى على قدمين، كان يعاتبنى دائماً على أننى لم أواصل طريق كتابة القصة وندهتنى نداهة الصحافة، كنت أزوغ من محاضرات إعدادى طب فى كلية العلوم لأحضر له فى مدرجات كلية الإعلام، لمجرد سماعه وهو يشرَح ويشرِّح قصائد الحب ويكشف الستار عن خباياها ويفك شفرة غموضها ويُدخلنا معه بلطف وود إلى قدس أقداس أسرارها. كنت أتعجب كيف تواتيه القدرة على إلقاء الشعر بتلك العذوبة أمام جمع من الآلاف ويجبرهم على الصمت احتراماً واستمتاعاً وعشقاً وذوباناً. كان صديقاً من طائفة الجدعان، كان أباً وأخاً وسنداً ورفيق حلم، عاش بروح الهواية طوال حياته، مارس حرفة الاستغناء بكل إباء وشمم، رحل بدون عدو واحد فى زمن الخصومة المزمنة والعداوة الدموية والتلاسن المنحط، رحل فى زمن أرباع النجوم الثقافيين، رحل فى زمن صارت فيه الثقافة كلمة سيئة السمعة، رحل فى عصر تعتبر فيه الفضائيات البرنامج الثقافى عورة يجب سترها، رحل فى زمن يغتال فيه رئيس أعلى مؤسسة تشريعية اللغة العربية بمائة وتسعة وستين خنجراً فى خطبة استغرقت خمس دقائق!!.