33 عاماً على رحيل الشاعر أمل دنقل، ذكرى أمل دنقل ليست مجرد رقم أو سرادق أو اجترار أحزان، إنما هى استدعاء لسيرة شاعر مفتاح شفرته الصدق، أحياناً الصدق إلى درجة الاستفزاز، لم يكن ليقول أو يكتب إلا ما يؤمن به، المجاملة ليست فى قاموسه، صدقه كان شرساً بأنياب ومخالب لدرجة أن الصديق الذى يجهل هذه الشفرة الدنقلية كانت تصيبه شظايا نابالم الصراحة التى سيترجمها من لا يعرف «أمل» إلى وقاحة! ذاكرتى تحتفظ بآخر لقاء تليفزيونى أجراه أمل دنقل قبل وفاته بقليل، أدار اللقاء الشاعر فاروق شوشة الذى استضاف أمل مع الأبنودى صديق رحلته من الصعيد إلى القاهرة وشريك حلمه الذى أجهضه الموت، اللقاء فى حد ذاته لقاء عادى من الناحية التليفزيونية بل أتذكر أن أمل والأبنودى كانا يتصببان عرقاً أمام كاميرات باردة مما جعل اللقاء من الناحية التقنية لقاءً أقل من المتوسط، لكن لا تستطيع وأنت تشاهد هذا اللقاء أن تقاوم سحر أمل دنقل، ولا أن تنتشل روحك من بحر صدقه النافذ ونظرته الثاقبة الحادة التى تعرى الزيف وتفضح النفاق. كان أمل فى هذا اللقاء نحيفاً شاحباً يبتلع ريقه مع كل جملة، منهكاً من جرعات العلاج المكثفة التى كان يتعرض لها لعلاج أخطر سرطانات العصر وهو سرطان الخصية، لكن هذا المنهك النحيل العليل تحول إلى فارس مغوار حين ألقى قصيدته التى كانت على ما أذكر «حوار على النيل»، كانت آراؤه النقدية فى جماليات الشعر آراء جادة جميلة تقدمية واضحة لا تلون فيها، قال إن صراع وهم الشاعر الأساسى أن يجعل الواقع شعراً والشعر واقعاً، أعلن أنه ضد المانشيتات الشعرية المباشرة والقصائد السياسية الفجة التى تتحدث عن المناسبات وتمجد دخان المصانع وإنجازات الثورة!، فلا يوجد ما يسمى بالقصيدة السياسية، يوجد قصيدة فقط بمقاييسها الجمالية الخاصة، تحدث عن الشعر من واقع تجربة لا من واقع مُنظّر يعيش فى برج عاجى. أهم ما فى الحلقة والذى يعطيكم فكرة عمن هو أمل دنقل وعن مدى صدقه هو رد فعله حين ذكر الشاعر عبدالرحمن الأبنودى من واقع الصداقة أن أمل يمر بمحنة مرضية وطلب منه أن يقول قصيدة «ضد مَن» التى كتبها على سرير المرض فى معهد السرطان، رفض أمل دنقل بكبرياء أن يستدر عطف المشاهدين وقال إن تجربة المرض تجربة شخصية لا تهم أحداً وليس مكانها البرنامج وألقى بقصيدته عن النيل!! أقارن الآن بين أمل دنقل وبين مثقفين كبار يتاجرون بكل شىء ولا يتورعون عن نخاسة الأفكار فى سوق الدعارة التى يبيعون فيها النظريات والشعارات حسب رغبة الزبون! أين أمل دنقل؛ ليعلم هؤلاء معنى الصدق والشرف وأيضاً معنى الشعر والجمال.