هناك كلمات كثيرة مهمة كانت تبث روح الطمأنينة والتسامح والانفتاح، لكنها اختفت من قاموس حواراتنا، على رأس هذه الكلمات «والله أعلم»، نبهنى إلى ذلك أستاذى وصديقى د. قدرى حفنى أستاذ علم النفس المعروف حين حكى أنه عندما أراد دراسة الحركات الإرهابية إبان ظهورها فى مصر قرأ أدبياتهم، وعلى رأسها كتاب أيمن الظواهرى، فوجد أنه على مدار صفحات الكتاب كله لم يذكر عبارة الله أعلم مرة واحدة!!، برغم أن فقهاءنا القدامى كانت كتبهم دائماً مليئة بهذه العبارة المفتاح، العبارة السماحة، العبارة التى تعنى عدم احتكار الحقيقة، وتساءل وقتها عندما أجرى تحليلاً إحصائياً لمن انخرطوا فى هذه التنظيمات وصاروا من القيادات، فوجد د.قدرى مفاجأة صادمة، وهى أن معظمهم خريجو طب وهندسة وعلوم، كيف لهذه العقليات العلمية المتفوقة أن تصبح عجينة سهلة التشكيل وعبيداً يسيرة التجنيد؟!، كان الرد لأنهم يتعلمون بطريقة اليقينية العلمية أو الأصولية العلمية التى تتنافى تماماً مع روح المنهج العلمى القائم على التشكك، الأساتذة المصريون شوهوا المنهج العلمى فى التفكير، وزرعوا فيه اليقينيات وشطبوا الله أعلم كما شطبها الظواهرى، شطبوا أنه ما زال هناك مجهول غامض يقبع ويسكن لم يكتشف بعد، لذلك كان من السهل أن يستبدل الظواهرى بأستاذ الجراحة أمير الجماعة وبكتاب الباثولوجى كتاب سيد قطب وبسكشن الكلية تنظيم القاعدة!، فأنت قد ربيته فى الكلية بنظام لا تجادل يا أخى، فالجدل عيب وحرام وقلة أدب وتطاول، برغم أن التخطئة والتكذيب والدحض والتفنيد هى أعمدة العلم الأساسية، حكى د. قدرى حفنى قصة أخرى توضح الفرق بين طريقة تعليم تزرع فيك التفكير النقدى وطريقة أخرى تعلمك التفكير الإذعانى القمعى، حكى عن أستاذه العملاق د. مصطفى زيوار وكيف كان يسمح بل يحرضه على السؤال، ود. يوسف مراد الذى عندما سأله د. قدرى عن معنى مصطلح فى علم النفس كتبه فى ورقة صغيرة، وقال له سأرد عليك فى المحاضرة المقبلة برغم أنه بالطبع كان يعرف الإجابة، بعد سنين طويلة سأله د. قدرى لماذا فعلت ذلك؟، كان الرد لكى أعلمك أننى لا أعرف كل شىء، ولا أحد يلم بكل شىء، وأن هناك مساحة للاختلاف وعدم المعرفة والتعلم من جديد وإعادة المحاولة.. إلخ، التعليم كان منهج علم وأسلوب تربية وتحفيز عقل، وليس تلقيناً ولا تكديس معلومات ولا مجرد تجاوز امتحان، التعليم كيف تربى إنساناً وليس كيف تربى شريط كاسيت!!، حتى خريج الأزهر الآن نادراً ما يقول والله أعلم، داعية التليفزيون السلفى لا يقول: الله أعلم، بل يقول أنا أعلم والبخارى أعلم وما عليك إلا السمع والطاعة ومنحى توكيل التفكير والتكفير وما أنت يا مشاهد إلا صندوق مفتوح الغطاء ألقى لك فيه بكل ما لذ وطاب من الفتاوى وأرسم لك كتالوج حياتك التى شبه الحياه، متى تعود والله أعلم؟، متى لا يتجرأ الدعاة على اغتصاب حق الله فى محاسبتنا ويصرون على حسابنا بطريقتهم على الأرض؟!، متى نسترد نحن إنسانيتنا ومتى يستردون هم تواضع العلماء؟.