فى شهر فبراير، وفى قمة الصقيع منذ 416 سنة، قرر الكهنة أن يتدفأوا بلحم الفيلسوف والأب الإيطالى جيوردانو برونو، أحرقوه حياً وهو ابن الثانية والخمسين لأنه تجرأ على السؤال، وآمن بأن هذا العقل القابع فى الجمجمة يستطيع الإبحار بجسارة خارج مياهه الإقليمية، يفكر وينتقد ويغير، أحرقه السلفيون الكاثوليك حياً لأنه تبنى نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض وأضاف فرضية أن النظام الشمسى هو واحد من مجموعة نظم تغطى الكون فى صورة نجوم وقال بلانهائية الكون، وافترض أن كلاً من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة أخرى، ولأن سماسرة الدين لا يستطيعون العيش خارج بركة الأفكار الثابتة القديمة، ولا يقتاتون إلا على الجثث المقدسة والأصنام المحنطة، فقد جعلوا من أرسطو الذى قال بثبات الأرض صنماً لا يُمس، لدرجة أن ما قاله عن أن أسنان المرأة أكثر من أسنان الرجل بدون أن يكلف نفسه عناء فتح فم زوجته ليعد أسنانها ظل حقيقة لا تُمس مثل أفكار أخرى ثبت بعد ذلك أنها ترهات، ولكن طالب أكسفورد فى تلك الأوقات كان يدفع عشرة شلنات إذا أخطأ فى أى مقدس من مقدسات أرسطو! ظل مطارداً فى منافى أوروبا بسبب آرائه التى لم تعجب الكنيسة، طردته الكنيسة الكاثوليكية من موطنه، وطرده الكلفانيون من سويسرا، واللوثاريون من ألمانيا، وطلاب أكسفورد من بريطانيا، أحرقوا كل مؤلفاته وكتبه فى ميدان القديس بيتر، سجنوه ثمانى سنوات لكى يتراجع عن آرائه، أذاقوه كل صنوف التعذيب والهوان لدرجة أن رواية شهود العيان تقول إن «علامات التعذيب كانت واضحة على برونو، كان ممتقع اللون شاحباً قد بدا عليه الهزال بسبب النزيف المتكرر الذى تعرض له تحت آلة التعذيب الجهنمية المعروفة فى ذلك العصر. كانت يداه متدليتين بدون حياة، وكانت مفاصله مخلوعة، وعندما شبحوه على آلة الموت كانت الآثار بادية عليه فى مناطق انقلع عنها اللحم فبان العظم»، ظل برونو يتحداهم ويزعزع عروشهم ويسلبهم دفئهم الزائف، ظل يردد مقولته: «ليس للحكومة الحق فى أن تعيّن للناس تفكيرهم، وليس للهيئة الاجتماعية، يقصد الكنيسة، أن تعاقب بالسيف أولئك الذين ينشقون عن عقائدها الشائعة»، ظل يرفع فى وجوههم الشمعية الباردة كتابه «ظلال المثل» الذى قال فيه على لسان إحدى الشخصيات أنه «لا خلق من العدم، وأن الاقتراب من الله الذى يوجد فى كل مكان يكون بالمعرفة العقلية، وبدراسة الطبيعة التى يحل فيها الله، وليس بالصوم والصلاة. ولهذا يتعين على الدراسات العلمية والفلسفية أن تستبعد الدين من مجال البحث، أو أن تكون بمنأى عن الدين وسلطته، بل وبمنأى عن كل تحيز، حتى ينتفى الصراع بين العلم والدين». كان الثأر يحرك تجار الدين ضد برونو رغم أنه كان يعلق الصليب على حائط حجرته، إلا أن ما أغضبهم منه هو عدم تعليق صور القديسين، فبضاعتهم تبور إذا نُزعت القداسة عن أشخاصهم وسُحبت التوكيلات الإلهية وصكوك الغفران الفردوسية، كان غضبهم شرساً، وكانوا توّاقين إلى مشاهد الدم والأشلاء، قال ديورانت عن محاكمة برونو فى قصة الحضارة: «جُرِّد الرجل من ثيابه ثم رُبط لسانه وأُحكم وثاقه وشُد إلى خازوق من الحديد فوق ركام من الحطب وأُحرق حياً على مشهد من جمع غفير متعظ»، احتفلت الكنيسة بعد حفلة شواء برونو ممثلة فى خمسين من الكرادلة بهذه المناسبة كعيد للمسيحية فى انتصارها على الهراطقة وتطهير الأرض منهم، أما الرأى العام المهلل فنستطيع أن نستشف رأيه من الخبر الذى نُشر فى يوم السبت 19 فبراير من عام 1600 فى صحيفة «آفيزى دى روما AVVISI DI ROMA»: يقول الخبر «يوم الخميس صباحاً تم إحراق راهب دومينيكانى مجرم من (نولا) حياً، الذى أحطناكم علماً عنه فيما سبق من نشرات جريدتنا، أنه هرطيق عنيد للغاية، اختلق العديد من الآراء على هواه ضد عقائدنا، وخاصة ضد مريم العذراء والقديسين. هذا الخبيث اختار بإصراره الموت الزؤام، وكان يقول إننى أموت شهيداً وأموت سعيداً ولسوف تصعد روحى من ألسنة النار علواً إلى الجنة. ولكنه الآن سيعلم هل نطق بالحقيقة وأى منقلب انقلب؟!»، قتله الكهنة وأنصفه التاريخ وردّ اعتباره، فبعد ثلاثمائة سنة من إعدامه، يقام فى عام 1870 فى نفس الميدان، ميدان الأزهار الذى أُعدم فيه، تمثال بالحجم الطبيعى، يقف شاهداً على دور هذا القديس المتمرد الذى سرق شعلة النار فاحترق بها. ولنتذكر جميعاً الآن، ونحن نعيش هذا العصر بلاى باك، لنتذكر كلمات برونو التى وجّهها لقضاته البرابرة وهم يجرونه للمحرقة وكأنه يوجهها ويرفعها فى وجه كل المتخلفين: «لعلكم أيها القضاة وأنتم تنطقون بهذا الحكم تحسون من الفزع والرعب أكثر مما أحس أنا عند سماعى له».