«يا عمو أنا مش شحات»، قالها لى الطفل السورى عبدالكافى ذو التسع سنوات أمام مول العرب، أحياناً يتلقى الإنسان دروساً ممن يتصور أنهم يحتاجون إلى دروسه ويتخيل أنهم ينتظرون نصائحه، أحياناً يتصور ذلك لصغر سن المتلقى، خاصة إذا كان طفلاً، فيجد المفاجأة وهى أنه هو الذى يتعلم من هذا الطفل ويحتاج إلى تعلم الدروس منه، قابلته وأنا خارج من المول أنا وزوجتى أمام السيارة، وبينما أفتح الشنطة لأضع حصيلة رحلة المشتريات، إذا بهذا الطفل النحيف الذى يحمل وجهاً ملائكياً باسماً ويحمل معه أكياساً ضِعف وزنه، يقترب من زوجتى دون لزوجة ودون إلحاح، وبصوته الخفيض قال «يا خالتو معايا حلويات سورية وبيتزا»، لم يخرجها من الكيس إلا بعد أن طلبت هى رؤيتها، كانت مغلفة بمنتهى الإتقان ومن الواضح أنها طازجة ولم يبخل صانعها بتزويدها بكمية لا بأس بها من المكسرات، عندما سألناه من أين اشتريتها، كان الرد «أمى هى التى صنعتها فى المنزل»، أخذنا الفضول أكثر لكى نعرف معلومات شخصية أكثر عن عبدالكافى وسألناه عن سكنه؟ أخبرنا عن مكان سكنه الذى يبعد عشرات الكيلومترات، وأشار إلى موقف الميكروباص الذى يركب منه بعد رحلة اليوم الشاقة، برغم أننى ضد عمالة الأطفال وحاربت كثيراً من أجل تدعيم القوانين التى تُجرّم استخدام هؤلاء الأبرياء إلا أننى أمام هذا المشهد لم أستطع إلا أن أنحنى احتراماً لهذا الطفل برغم كسره للقوانين المكتوبة والمواثيق الموقعة والمعاهدات الدولية، لم ألمح نظرة غيرة طفولية أو حسدًا عدوانيًا طبيعيًا بالنسبة لسنه وظروفه أو زفرة ألم وتبرم أو نفثة غضب أو آهة حقد أو دمعة حسرة موجهة إلى الأطفال الذين يلعبون ويمرحون ويلهون فى المول أو الملاهى أمامه غير عابئين أو ملتفتين لهذا الكيان المُحمّل بأثقال الواجب وأحمال أكل العيش، دفعنا هذا المشهد للادعاء بأننا عاملين ريجيم ولذلك لا نتناول الحلوى أو النشويات، عرضنا عليه أن يأخذ ثمن الحلويات ويحتفظ بالعلب لبيعها لزبون آخر، امتقع لون الطفل واختلطت نبرات صوته بدمع مكتوم ورنة غضب مؤدبة «أنا مش شحات يا عمو»، أخجلنى هذا الطفل، علمنى عبدالكافى وأعطانى درساً، أخذت علب الحلوى ومنحته الفلوس وأصر على إعطائى الباقى بالضبط ولم يدّع غياب الفكة، ثم تركنى واتجه بمنتهى الجدية إلى سيارة أخرى وزبون جديد، ظللت أراقبه وهو يُخرج العلب من الأكياس ويجرى بين السيارات دون أدنى محاولة تسول أو استعطاف، يبيع الحلوى ولكنه لا يبيع الكرامة، اختفى فى الزحام وابتلعه موقف الميكروباص، ولكنه لم يختف من الذاكرة ومن القلب، سيقطع الأميال إلى حيث يسلم أمه نتاج عمله وعرق جبينه وجهده، حتماً سيُقبّل جبينها ويديها، وحتماً ستعتذر له عن حرمانه من اللعب ومتعة الطفولة المؤجلة، شكراً يا عبدالكافى على درسك البليغ العميق الرائع.