هناك النظرة وهناك الرؤية، وعين المثقف إن اقتصرت فقط على النظرة فهى لا تؤدى وظيفتها الحقيقية، المشهد عند المثقف لا يجب أن تكون حدوده النهائية ومياهه الإقليمية هى الشبكية، والصورة يجب ألا تُسجن فى حدود الفوتوغرافيا، يجب ترجمة دلالاتها وتحليل مفرداتها وتفكيك ثم تجميع تفاصيلها، لذلك أحرص على قراءة ما يكتبه د. جلال أمين، فهو يمتلك تلك الرؤية الثاقبة النافذة المحللة، الظواهر التى ألفناها واعتدنا عليها ولم تعد تستفز خلايا فضولنا، يصدمنا جلال أمين بإعادة تصديرها إلينا وتقديم مذكرتها التفسيرية وكتالوجها الاجتماعى وحل شفرتها الثقافية، كتاب «مكتوب على الجبين» أحدث كتب د. جلال أمين، ينتمى نصفه إلى هذا العالم الذى شدنى وأبهرنى فى كتابه الرائع «ماذا حدث للمصريين»، وأقول نصفه لأن هناك نصفاً آخر لم يقرأ فيه الظواهر الاجتماعية والاقتصادية وإنما قرأ فيه البشر، وللأسف أخفق فى تحقيق هذا النفاذ. وتلك الرؤية التى يحققها فى ملعبه الأساسى، وهو ملعب القراءة الاجتماعية للظواهر والتغيرات الاقتصادية والثقافية، فلم يعجبنى ما ينتمى لعالم النميمة فى كتابته عن أصدقاء أو معارف قابلهم فى حياته ومنهم الناقد رجاء النقاش، فهو للأسف قدم وجهة نظر شخصية ضيقة مشوشة ليست لها علاقة بقراءاته الرصينة لواقعنا الاجتماعى والثقافى، وما ذكرته ليس له أدنى علاقة بقدح أو مدح فى النقاش أو سمير أمين أو غيرهما ولكن له علاقة بمدى الفائدة التى ستعود علىّ كقارئ ومدى العمق ونفاذ البصيرة والحياد وتجنيب المشاعر الوقتية حين يتصدى للكتابة مثقف فى حجم وقامة د. جلال، وكذلك ما كتبه عن أقاربه وأسرته ومنزله لم أحس فيه بنفس العمق أو حتى المتعة والإضافة، لكن عندما كتب عن تأثير شريط الفيديو على الأفكار والعلاقات من أمريكا إلى العراق كان رائعاً، عندما كتب عن طاغور، عندما طرح سؤال هل الربح كلمة نابية؟، عندما ربط ما بين انعدام البهجة والكآبة وما بين المال الذى بلا جهد والإنفاق المفتقد للمعنى والضرورة، مقارناته ما بين المجتمعين الإنجليزى والمصرى من خلال عين وفكر مبعوث شاب، ثم من خلال زوج مرتبط بابنة هذا المجتمع، ثم من خلال عين أستاذ يحضر مؤتمرات ويتفاعل مع زملاء هناك أو فى أمريكا بعد ذلك، كل هذه الرؤى وغيرها هى أمتع ما فى الكتاب من وجهة نظرى، كان فيها جلال أمين فى قمة تألقه ولياقته الكتابية، وتظل مشكلة كتّابنا ومثقفينا هى عدم إدراكهم للجزء المنير اللامع فى كتاباتهم فيستنفدون الجهد والطاقة ويهدرونها فى أنواع كتابة وطرح قضايا هم فيها نص نص وإلا خمسة، بالرغم من أن أمامهم وفى مخزونهم الفكرى وطاقة إبداعهم قضايا هم فيها الألفة، ويحققون فيها الدرجة النهائية والعشرة على عشرة.