قرار منع المنتقبات من التدريس فى الجامعة، والذى اتخذه د. جابر نصار، ليس السابقة الأولى، فلقد اتخذ د. حسين كامل بهاء الدين، عندما كان وزيراً للتعليم، قراراً أكثر حسماً وانتشاراً، عندما منع نقاب الطالبات فى المدارس، وبرغم أن د. جابر رجل قانون محنك إلا أننى لاحظت فى مداخلته مع السلفى عبدالمنعم الشحات مهادنة وتمييعاً للقضية واختزالاً لها فى مسألة شفايف المنتقبة التى يحتاج رؤيتها الطالب الذى يريد تعلم اللغات!!، وهو اختزال كوميدى نجح السلفيون كعادتهم فى الجدل البيزنطى فى جر د. جابر إلى بداية وضع الاستثناءات وبث عبارات مثل إذا لم يمنعها النقاب من التواصل فممكن تلبسه... إلى آخر هذا الكلام الذى جعل المسألة تتحول من قضية نقاب يمسخ الهوية لمجرد نقاب لا يسمح للشفتين بنطق وتوصيل اللغة الأجنبية!!، إذا أردت اغتيال قضية ابدأ فى قول «إلا إذا»، وهذا ما يحدث مع جميع قضايانا، خاصة التى لها مردود اجتماعى وثقافى، لذلك أدعو د. جابر وكل مثقف وقاضٍ ومهموم بهذا الوطن إلى أن يقرأ حيثيات ومنطوق الحكم الذى صدر فى ١٨ مايو ١٩٩٦ من أعلى حجية قانونية، وهى المحكمة الدستورية العليا، برئاسة المستشار عوض المر، الذى رفض دعوى ولى أمر طالبة منتقبة بمدرسة إيزيس الثانوية بالإسكندرية ضد وزير التربية والتعليم وقتها د. حسين كامل بهاء الدين، والتى كانت قد مُنعت من دخول المدرسة، وحيثيات الرفض بها عبارات وجمل لابد من تدارسها والتأمل فيها لأهميتها فى حسم اللغط والجدل الدائر حول تفسيرات البعض للمادة الثانية من الدستور، الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر تشريع، وإقحام الأعراف الاجتماعية والأزياء والطعام وكل ما هو خلافى يخضع للتطور، ومحاولة تحنيطه ونسج فزاعة قانونية لكل من تسول له نفسه مناقشة أمر فقهى مختلف عليه ليس ثبوتى القطعية والدلالة، ونقتبس هنا بعض العبارات من حكم الدستورية العليا: شريعة الله لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شؤونها قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها، فالآراء الاجتهادية فى المسائل المختلف عليها ليس لها فى ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالى اعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد، بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيباً، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سنداً أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ولو كان مخالفاً لآراء استقر عليها العمل زمناً. ليس متصوراً أن تموج الحياة بكل مظاهرها من حولها، وأن يطلب منها على وجه الاقتضاء أن تكون شبحاً مكسواً بالسواد أو بغيره، بل يتعين أن يكون لباسها شرعاً قرين تقواها، وبما لا يعطل حركتها فى الحياة. لا دليل من النصوص القرآنية ولا من سنتنا الحميدة على أن لباس المرأة يتعين شرعاً أن يكون احتجاباً كاملاً، متخذاً نقاباً محيطاً بها منسدلاً عليها لا يظهر منها إلا عينيها ومحجريهما، فإن إلزامها بإخفاء وجهها وكفيها وقدميها عند البعض لا يكون تأويلاً مقبولاً، ولا معلوماً من الدين بالضرورة. كشفها لوجهها أعون على اتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها ويفرضون نوعاً من الرقابة على سلوكها، وهو كذلك أكفل لحيائها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها وأدعى لرفع الحرج عنها. لا يناقض قرار منع ارتداء النقاب فى المدارس نص المادة الثانية من الدستور، ذلك أن لولى الأمر فى المسائل الخلافية حق الاجتهاد بما ييسر على الناس شؤونهم، ويعكس ما يكون صحيحاً من عاداتهم وأعرافهم، وبما لا يعطل المقاصد الكلية لشريعتهم التى لا ينافيها أن ينظم ولى الأمر فى دائرة بذاتها لباس الفتاة. القول بأن القرار المطعون فيه يخل بالحرية الشخصية مردود عليه بأنه حتى ولو جاز القول بأن مظهر الشخص من خلال الأزياء التى يرتديها يبلور إرادة الاختيار التى تمثل نطاقاً للحرية الفردية يرعى مقوماتها ويكفل جوهر خصائصها، إلا أن إرادة الاختيار هذه ينبغى قصر عملها على ما يكون لصيقاً بالشخصية، مرتبطاً بذاتية الإنسان فى دائرة تبرز معها ملامح حياته وقراراته الشخصية فى أدق توجهاتها، وأنبل مقاصدها، كالحق فى اختيار الزوج وتكوين الأسرة، وأن يتخذ الشخص ولداً، ولا يجوز بالتالى بسطها إلى تنظيم محدد ينحصر فى دائرة بذاتها، يكون الصالح العام ماثلاً فيها ضبطاً لشؤون هؤلاء الذين يقعون فى محيطها. رحم الله المستشار عوض المر وأدعو الله أن يرحمنا من ظاهرة التنطع.