اقتنصت ساعة من زحمة الحياة التي تدهسنا وتخصم من رصيد شحن بطاريات مشاعرنا وصداقاتنا، هذه الساعة كانت مع الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، استمتعت بحديثه العذب وذكرياته المتدفقة ولغته التي تحمل في مفرداتها سحر الموسيقى، صدمتنى قصتان أو لقطتان لم تستغرق كل منهما دقيقة في حوارى مع شاعرنا الجميل ولكنى عندما عدت إلى قراءة تفاصيل القصتين ووسعت الكادر، وجدت أن كل قصة منهما تحتاج إلى سنين لتحليل دلالاتها وغسل عار تفاصيلها المفجعة، اللقطة الأولى لويس عوض في سنينه الأخيرة قبل أن ينهشه السرطان يتمشى مع عبدالمعطى حجازى في الحى اللاتينى وفجأة وعند الكوليج دى فرانس إذا بلويس عوض يجهش بالبكاء، تذكر أمام هذا الصرح الثقافى الهائل الذي شارك في تكوين بنائه وشخصيته وفكره كعاشق للتنوير الأوروبى، تذكر المهانة والتعذيب والجلد والسحل الذي تعرض له في المعتقل، تعذيب المعتقلات هو سرطان الروح، شبيه بسرطان الزجاج الذي لا تلتئم شروخه، بل تمتد وتتعمق حتى تلتهم ما تبقى من فتافيت البنى آدم وشظايا روحه وأشلاء نفسه، لويس هذا العملاق العبقرى البناء العظيم الذي أهدى إلى ثقافتنا المصرية أجيالاً وأجيالاً من الشعراء والمسرحيين وكُتّاب الرواية...إلخ، حجر أساسى في هرم التنوير المصرى وضلع مهم من أضلاع مثلث نهضة مصر الثقافية، هذا الرجل يلطمه ويركله عسكرى أُمّىّ في المعتقل، حكاية اللطمة والركلة من الكوميديا السوداء، فقد سأله العسكرى: إنت بتشتغل إيه، فرد لويس قائلاً: دكتور، سأله العسكرى: دكتور في إيه؟، في الأدب، وعندما لاحظ لويس عوض استغراب واندهاش العسكرى، شرح أكثر قائلاً دكتور في القصص والروايات، فلطمه على وجهه مستخفاً به: يعنى دكتور في الحواديت يابن الكلب!!، الحكاية الثانية من نفس المدينة باريس ومع نفس الصديق أحمد عبدالمعطى حجازى ولكن الضيف هذه المرة كان د. محمد مندور أهم أستاذ نقد أدبى مر على مصر في القرن العشرين، دموع مندور هذه المرة في مدينة النور والجمال باريس التي تعلم فيها وحفظ شوارعها ومقاهيها ليعود إلى مصر ناشراً عطر ثقافته الفواحة الموسوعية وليبذر بذور التنوير في تربتها الخصبة ويضىء الطريق أمام كتيبة من المسرحيين والشعراء والكُتّاب الذين يجعلون من ملاحظاته النقدية مانيفستو عمل وتدريب وثقافة يستفيدون منها في تجاربهم اللاحقة، بكاء مندور في حضن حجازى ودموعه المبللة بالمرارة والقهر كانت عندما منعته السلطة من السفر إلى تونس، حيث مهرجان أبى القاسم الشابى، أخبره سعد الدين وهبة وقتها بأن الدولة رفضت أن يشارك مندور في هذا المهرجان، تيقن من وهبة أن السلطة غير راضية عنه، كيف؟، مندور كان في نفس الخندق، مناضل شرس ضد الاحتلال قبل الثورة، وبعدها كان صانعاً ومشاركاً لكل أحلام الاستقلال والتنوير والحرية التي اجتمع حولها المثقفون وتخيلوا أن الدولة والثورة تشاركهم نفس الحلم، بكى الشيخ العجوز بصوت واهن ودمع ساخن، فقد كانوا يعاقبون مثقفاً كل جريمته الحلم بالنور، والأقسى والأكثر قهراً أنهم كانوا يعاقبون مواطناً اسمه محمد مندور استشهد ابنه الضابط مدرب كرة اليد في القوات المسلحة والذى رفض أن يظل في وحدته العسكرية في مصر وذهب إلى حرب اليمن مع زملائه فاستُشهد هناك!!، كانت النتيجة هي منع الناقد الكبير والمثقف العظيم ووالد الشهيد من السفر. تعامل السلطة مع المثقف يحتاج إلى مجلدات، منها ما هو مكتوب بالدم ومنها ما هو مكتوب بالدمع، منها ما هو تراجيدى ومنها ما هو كوميدى، المثقف بين تدجين الحظيرة ومعتقل الواحات قصة طويلة من الألم والقهر والعبث.