هل كان هناك يهود فى مصر؟ سؤال باغتنى به ابنى، بينما كنت مستغرقاً فى متابعة مسلسل «حارة اليهود»، ابنى معذور وجيله معذور، كما كنا نحن أيضاً كجيل معذورين، جيل حفظ أن اليهودى والصهيونى هما شىء واحد وأنهما لا يأتيان إلا بالخراب، جيل زرعوا فى ذهنه أن الفتنة الكبرى فى التاريخ الإسلامى من صنع يهودى متخف منافق لعب بعقول الصحابة وجعلهم يقتتلون فيما بينهم بدسائسه ومؤامراته، جيل تفتحت عيناه على قصة أن جمال عبدالناصر طرد اليهود المرابين الخونة من مصر، لأنهم طابور خامس فرحوا وابتهجوا بمؤامرات الغرب التى انتهت بالعدوان الثلاثى الذى شارك فيه يهود!! تربينا على كتب دراسية كانت تقدم لنا اليهود بأنوف طويلة مدببة معقوفة، وجرائد كانت تتهم كل اليهود المصريين بأنهم عملاء لإسرائيل- لدرجة أن بعضهم اتهم الفنانة العظيمة ليلى مراد ظلماً بأنها جمعت التبرعات لإقامة الدولة الصهيونية- وقناتين أولى وثانية كانتا تقدمان دائماً اليهودى فى الدراما على أنه أخنف وكأنه عيب جينى ينتقل بالوراثة مثل لون البشرة!! لذلك تفهمت وتوقعت الهجوم على مسلسل «حارة اليهود»، الذى لا يمكن أن نحكم عليه فنياً من مجرد حلقة أو حلقتين، ولكنه حتى الآن مسلسل مبشر يستحق الاهتمام والمشاهدة، مسلسل مكتوب بقلم مثقف واع، وهو د.مدحت العدل، ومنسوج بصرياً بإيقاع لاهث وذكى وبعين مخرج واعد، وهو محمد العدل، المهم أن الصورة الذهنية لليهود- والأهم الصورة الذهنية للآخر عموماً وللمختلف- دخلت فلتر العقل والمنطق وليس فرن تسخين وتجييش العواطف، لم يعد ينفع أن نضع اليهود أسرى فكرة سابقة التجهيز وقالب جبس من التنميط أو «الستيريوتيب» الخرافى، الذى يصنع من اليهودى مسخاً شيطانياً وتنيناً أسطورياً يطلق فحيح اللهب أينما حل وارتحل! أعرف أن د.مدحت العدل وفريق عمل المسلسل يخوضون فى حقل ألغام، ولكن الألغام والديناميت أحياناً يتم استخدامها فى شق الطرق خلال الجبال وفى وسط الصخور، ونحن نعرف أن جبال وصخور أفكار ومعتقدات المصريين الصلبة المتحجرة الآن- والتى ابتعدت عن سماحتها ووسطيتها وقبولها للآخر- تحتاج إلى مثل هذه الألغام، المهم كانت إجابتى عن سؤال ابنى هى: نعم، كان هناك يهود يسكنون مصر، وكانوا مصريين حتى النخاع، وكان منهم من يعشق مصر أكثر وأصدق من بعض المسلمين الذين يعيشون بيننا الآن ولا يعترفون بالوطن ويقولون له «طظ»، ولإنعاش الذاكرة سأذكر بعض الأسماء باختصار: - المحامى اليسارى يوسف درويش: الذى نذر حياته للدفاع عن العمال، والذى ظل يرتدى البدلة السوداء عاماً كاملاً، حزناً على الزعيم سعد زغلول، واعتقل عدة مرات نتيجة دفاعه عن الغلابة، والذى كانت أمامه فرصة ذهبية للعيش فى فرنسا، ولكنه كون مع والد د. حسين كامل بهاء الدين جمعية لمقاومة الاحتلال، وظل- رغم كل المنغصات فى مصر- حتى دفن فى ترابها الذى سكنه وعشقه. - الفنانة الرائعة ليلى مراد: ابنة الملحن اليهودى زكى مراد، وشقيقة الملحن خفيف الظل منير مراد، والتى لا يجد التليفزيون المصرى أجمل من أغنيتها «يا رايحين للنبى الغالى» للعرض فى عيد الأضحى، كانت مصرية حتى النخاع، ولم يمنعها دينها اليهودى- حتى قبل إسلامها- من أن تنتمى إلى مصر قلباً وقالباً، رغم أن اتهامات مزيفة طالتها عن تبرعاتها لإسرائيل وغيرها من الشائعات، ولكن لم يصدقها مصرى واحد، لأنها كانت معشوقة الجماهير. - يوسف أصلان قطاوى باشا: لا يكاد يتذكر مصرى أن هناك يهودياً اسمه يوسف قطاوى عين وزيراً للمالية فى وزارة زيور باشا (نوفمبر 1924- مارس 1925)، ثم أصبح وزيراً للمواصلات سنة 1925، وفى سنة 1923 انتُخب عضواً فى مجلس النواب عن دائرة كوم أمبو، وعضواً فى مجلس الشيوخ من 1927 إلى 1936، بل اشترك سنة 1920 بالتعاون مع طلعت حرب ويوسف شيكوريل فى تأسيس بنك مصر. - داوود حسنى: ملحن مصرى حتى النخاع، ترك المدرسة ليعمل فى مكتبة الشيخ سكر لتجليد الكتب، والذى كان من المتحمسين لحلقات الذكر، وسمح الشيخ سكر لداوود بالغناء أثناء عمله بالمكتبة، وحدث عن طريق المصادفة أن الشيخ محمد عبده عند حضوره إلى مكتبة الشيخ سكر، ما إن سمع داوود وهو يغنى أثناء عمله فى المكتبة قال للذين حوله إن هذا الشاب سيكون له نصيب وافر فى عالم الفن والغناء، ويكفى أنه صاحب «أسمر ملك روحى» و«البحر بيضحك ليه» المغرقة فى المصرية. - الفنانة نجوى سالم التى أَثْرت المسرح المصرى الكوميدى من زمن الريحانى حتى فرقتها الخاصة التى كانت تقيم حفلات خاصة للجيش المصرى وتجمع تبرعات للمجهود الحربى بعد هزيمة 1967، رغم أزمتها النفسية التى كانت تعانيها، بسبب إحساس الاضطهاد الذى كانت تحسه، والمسؤولة عنه ديانتها اليهودية، قبل إشهار إسلامها. - سلامة إلياس: كثير من القراء سيندهشون عندما يعرفون أن هذا الفنان- الذى كان شريكاً أساسياً فى معظم أعمال فؤاد المهندس- هو مصرى يهودى رفض السفر لإسرائيل وترك البلد الذى يعشقه والذى دفن فيه.