ماسبيرو يغط فى نوم عميق منذ فترة طويلة متخلياً عن دوره التنويرى، ولا أحد يتحرك أو يستفز أو يحس بالخطر، لكن عندما ينقطع النور وتتوقف مولدات الكهرباء، هنا فقط أحسسنا بالخطر ووقفنا وانتفضنا وثرنا وهجنا من الإسكندرية حتى أسوان!، الموقف بالطبع يستدعى الغضب ولكن هل غياب التنوير الاجتماعى والعقلى لا يستدعى نفس درجة الغضب مثل غياب النور الكهربى، وهل التنوير يقاس بنبضات الفولت أم بنبضات الإبداع؟!، ولماذا نحن كشعب وكمجتمع فقدنا الإحساس بالأشياء المجردة مثل الأفكار ولا نستشعر الخطر إلا من الأشياء المحسوسة؟!، الإنسان تقدم وترقى وصعد سلم الحضارة متفوقاً على كل الكائنات الأخرى بفضيلة القدرة على الفكر والتجريد، فيكفى أن تكتب للإنسان شجرة لكى يفهم مقصدك، وليس بالضرورة أن تأخذه إلى الغابة!، ليس ضرورياً أن يلقى فى النار ليعرف أنها خطر وليس مجبراً على الكى بالسيخ المحمى ليتأكد من سخونته، وكذلك المجتمعات المتقدمة ليس بالضرورة أن تكتوى بنار الإخوان لتعرف أنهم عصابة تتاجر بالدين، يكفى قراءة تاريخهم لكشفهم وليس إجبارياً على أى مجتمع أن يظل 80 سنة يفكر ويفكر ويحترق وتصيبه شظايا الدمار والتخريب حتى يفهم أن هذا التنظيم إجرامى!!، هل كان لابد أن ينطفئ النور يا لى لى- مع الاعتذار ليوسف إدريس- لكى نفهم أن ماسبيرو مات وادفن وخدنا فيه العزا من زمان؟!، هل لابد أن تظلم الشاشات حتى نفهم أن الفكر الظلامى قد احتل ماسبيرو واستوطن كالسرطان؟، هل كان لابد أن تتوقف المولدات وتحترق حتى نؤمن بأن مولدات التنوير والعقل قد احترقت فى ماسبيرو مع احتراق أشرطة طه حسين مع ليلى رستم والعقاد مع أمانى ناشد وزكى نجيب محمود مع فاروق شوشة ويوسف إدريس مع مفيد فوزى؟!، ماسبيرو افتقد التنوير مع رحيل العمالقة الذين بنوه وصعدوا على سقالاته وتساقطت حبات عرقهم فى استوديوهاته، ماسبيرو تماضر توفيق وسميرة الكيلانى وسعد لبيب، ماسبيرو الذى كان يقدم فيه مصطفى محمود العلم والإيمان، ومحمود سلطان عالم الحيوان، ويوسف مظهر برنامج تكنولوجيا، وعبدالرحمن على سينما لا تكذب ولا تتجمل، جرعات علمية وثقافية تنير العقل والوجدان، كانت الخريطة البرامجية فيها المسرح العالمى والباليه والفن الشعبى والموسيقى بتحليل سمحة الخولى ورتيبة الحفنى والفن التشكيلى الذى كانت تقدمه رشا مدينة وكاتب وقصة والتمثيلية المكثفة ذات الإيقاع السريع ومسرحيات القومى التى تعرض متزامنة مع عرضها على خشبة المسرح وفرق التليفزيون التى يشرف عليها العملاق سيد بدير، هذه الوجبة الفنية الدسمة كانت أهم حائط صد ضد التطرف، كانت أهم من جهاز أمن الدولة، فقد كان ماسبيرو هو جهاز أمن العقل والوجدان والروح، لم نكن قد ابتلينا بعد باختراع التوك شو اللعين، لن يصدق أحد من الجيل الجديد أن روائع وكلاسيكيات الدراما المصرية التى مازلنا نفتخر بها حتى الآن هى من إبداعات قطاع الإنتاج فى زمن ممدوح الليثى، رأفت الهجان وليالى الحلمية وبوابة الحلوانى... إلخ، حتى أفلام التليفزيون الخالدة الرائعة مثل أنا لا أكذب ولكنى أتجمل، واستقالة عالمة ذرة، وفوزية البرجوازية، وناصر... إلخ هى من إنتاج نفس القطاع وإشراف نفس المنتج الرائع الليثى، كانت المنوعات التى هى الآن كمناديل الكلينكس والتى تستخدمها الفضائيات وتصرف عليها الملايين لتزييف الوعى وتخديره كان ماسبيرو يقدمها بشياكة، حتى الفوازير لم تكن للتسلية فقط ولكنها كانت تقدم بجانب الموسيقى الراقية والكلمات الجميلة معلومات وثقافة، كان هذا هو ماسبيرو الحقيقى الذى انقطع النور عنه منذ أن تخلى عن هذا الدور. كهرباء التنوير والثقافة والفكر والإبداع انقطعت عن ماسبيرو ليست لدقائق ولكنها لسنين منذ أن قرر أن يدخل حلبة المنافسة مع الفضائيات على الإسفاف والتفاهة والجهل والتجهيل، البقاء لله فى ماسبيرو.