«جوجل» يحتفى بعيد ميلاد شادى عبدالسلام، والتليفزيون المصرى لا يعرض حتى لقطة من فيلمه «المومياء»!! فى 8 أكتوبر 1986 مات شادى عبدالسلام مقتولاً بداء الصمت والتجاهل، صريع مؤامرة التراخى والطناش، تلك الكلمة التى تسللت إلى قاموسنا فعبّرت بمنتهى الصدق والعبقرية عن أمضى سلاح نذبح به أبناءنا.. «الطناش»، فقد أمضى «شادى»، فنان مصر الفصيح، عشر سنوات يبحث عمن ينتج له فيلمه «إخناتون» فلم يُعرْه أحد انتباهاً، طرق كل الأبواب وهو العزيز النفس، وتسول اللقاءات والزيارات وهو عجينة الكبرياء، عرضت عليه جميع دول العالم أن تنتج له الفيلم ولكنه رفض بكل إصرار، كان يقول: إخناتون لا بد أن يكون مصرياً ولن أساوم على تاريخ الوطن، رفض العرض الأمريكى الذى كان يريد إظهار إخناتون زنجياً أسود، ورفض العرض الكندى الذى أراده مجرد فيلم سياحى، وكذلك الفرنسى، أما العرض العراقى فقد رفضه لأسباب سياسيه، وكانت المأساة حين جاءه العرض الإسرائيلى وهو ما زال يدق أبواب البيروقراطية المصرية آملاً فيها خيراً، وكان الوجه الغاضب والقبضة المتحفزة والنظرة المحتقرة هى الإجابة الحاسمة والسريعة على هؤلاء الصهاينة، ولكن هذه الإجابة كانت قد غُلفت بغلالة الدمع التى نزلت كستائر الشجن على عينيه الحانيتين، فهو لم يهن إلى هذا الحد الذى يعرض فيه عدوه التاريخى عليه أن يبيع نفسه وفنه، إنه شادى عبدالسلام الذى عاش حتى آخر نفَس يؤمن بقدرة الإنسان المصرى على التجاوز والتمرد لأنه ببساطة ابن حضارة تمتد بعمق التاريخ، ولذلك وهب نفسه وحياته لتنفيذ مشروع وصف مصر سينمائياً ولكن القدر لم يمهله واختطفه فى صمت وهو الذى ملأ الدنيا بفيلمه الروائى الوحيد «المومياء» الذى كان كتغريدة البجعة الأخيرة قبل أن تودع الحياة. وُلد شادى عبدالسلام فى 15 مارس 1930 من أب محامٍ صعيدى من المنيا وأم من الإسكندرية، وتلقى تعليمه فى فيكتوريا كوليدج، وخلال سنوات دراسته ما قبل الجامعية اضطر إلى التوقف عن الدراسة لمدة عامين رقدهما فى الفراش لأن قلبه العليل لم يحتمل طول قامته الفارعة الممشوقة، وكانت هذه هى الفرصة الذهبية له لكى يقرأ وينهل من مكتبة أبيه الثرية بكتب التاريخ وخاصة التاريخ الفرعونى، وبدأت ملامح الانطواء والتأمل تتضح لترسم بورتريه شادى الفنان، وتأكدت موهبته حين التحق بكلية الفنون الجميلة قسم عمارة وتخرج منها 1954، وبعدها صقل هذه الموهبة بوجه فنى آخر عندما سافر لإنجلترا لدراسة الدراما فى الأولدويتسن، وقبل ذلك التحق شادى بالجيش سلاح الصيانة، وهناك خرج من قوقعته وتعرف على الناس واختلط بهم، مسته كهرباء أحلام البسطاء، ووجد فيهم حساً وصدقاً وروحاً خالية من الزيف والتصنع، وكانت تلك ضربة الفرشاة القوية فى بورتريه هذا الفنان التى ثبتت طوال العمر فقرر من وقتها أن يصوغ هذا الهم فناً، وعاهد نفسه على ألا يتنازل لأنه ينتمى لذلك المجموع الكبير صاحب الحضارة الفتية التى لا تموت، قرر أن يزيل عنها الغبار، وكره أن تتحول الحضارة الفرعونية إلى مجرد سبوبة وأكل عيش للمرشدين السياحيين والترجمانات والأرزقية والنصابين والسماسرة، قرر أن يحول تلك الأحجار الصامتة إلى شريط سيلولويد سينمائى ينطق ويحكى ويعبّر، فكانت أفلامه التى رصدت ذلك التاريخ كما لم يرصده أحد من قبل. لكن قبل أن نخوض فى أفلامه، سنفتح أبواب قلعته السرية التى لا يعرفها إلا محبو فنه، ألا وهى تصميم الديكور والملابس والإكسسوار ومساعد المخرج، فقد ظل يمارس تلك الفنون ما يقرب من ثمانى سنوات منذ 1959 حين التقى لقاءه الأول بصلاح أبوسيف، إلى أن تركها حين شرع فى تنفيذ فيلم المومياء، رافضاً كل عروض تصميم الديكور والملابس بأرقامها الخيالية لدرجة أنه ظل عاماً ونصف عام على حافة الإفلاس. وكانت تلك الفترة فترة ثرية جداً ومحبطة جداً، ثرية لأنه تنفس فيها عبق الفن السابع، ومحبطة لأنه كان يرى ديكوراته تُهان ولا تُنفذ كما يجب أو كما كانت فى خياله، وتصميمات ملابسه تُستبدل أو يتم تغييرها بحجة تقليص الصرف وضعف الميزانية وترشيد الإنتاج.. إلخ، وفى تلك الفترة صمم مناظر أفلام فى أمريكا وإيطاليا وبولندا مثل كليوباترا وفرعون الحضارة، وعمل مع المخرج الكبير روسيللينى الذى كان له الفضل فى ظهور فيلمه المومياء، إذ توسط له عند ثروت عكاشة وزير الثقافة حينذاك وزكى له السيناريو وأقنعه به، ومن أهم الأفلام التى صمم لها الديكور والملابس «الناصر صلاح الدين» و«وإسلاماه» و«حكاية حب» و«رابعة العدوية» و«الخطايا» و«ألمظ وعبده الحامولى» و«أمير الدهاء» و«بين القصرين» و«السمان والخريف»... إلى آخر تلك التحف التى يجب ألا تمر علينا مرور الكرام، ويجب أن ننظر إلى تفصيلاتها بدقة لأنها بداية تشكل عبقرية شادى عبدالسلام.