المجتمع فى حالة تحرش جماعى بالبنت على كافة المستويات، اجتماعياً وعلمياً واقتصادياً وجنسياً، التحرش ليس غرضه اقتناص لحظة لذة ولكنه لحظة إثبات تفوق، هذا هو الخيط الأساسى فى رواية «الكتابة بالمشرط» للكاتب الجراح إيمان يحيى والتى أتوقع لها أن تكون رواية 2015 بامتياز، فلأول مرة فى تاريخ الرواية العربية يقتحم كاتب عالم الجامعة والمستشفيات الجامعية السرى ويعرى كمَّ الفساد الإدارى والشيزوفرينيا الأخلاقية فيه ويخلع القناع عن نماذج مريضة طالما أطلقنا عليها «كريمة الكريمة»! بطلة القصة «سعاد» كل جريمتها أنها تحمل عار «تاء التأنيث» وتخيلت أنها من الممكن أن تتمرد على عارها المزمن وتمارس الجراحة التخصصية، وهذا معناه أنها ستقتحم قدس أقداس الذكر وتتعامل بالمشرط مع أعضائه وتدنسها وتنجسها. حرب ضروس مارسها الجميع، بداية من زملائها ورئيس القسم حتى رئيس الجامعة. الرواية بها تفاصيل مرعبة لهذا الاضطهاد الذى يحمل بذور قصة حقيقية واقعية حدثت للأسف وعشت أنا شخصياً تفاصيلها وسمعتها من بطلة القصة شخصياً، هذا هو اللون الأساسى فى هذا البورتريه الدراكولى البشع. هناك أطياف وألوان ورتوش أخرى تكمل البورتريه وتُدخلك إلى أعماق هذا الجو الكافكاوى الرهيب، رئيس قسم إخوانى سيكوباتى، لا يتورع أن يجعل المستشفى باباً سرياً لعيادته، مستعد أن يبيع أى شىء حتى نفسه مقابل الكرسى، زوجته زينب المنقبة التى تريد التحرر من النقاب وتفقد نشوتها كل مرة حين يكبّر الزوج فى أذنها طلباً للولد وابتعاداً عن خلفة البنت، أطباء القسم كوكتيل إنسانى غريب وكأنه خرج بالبلاطى البيضاء من عنبر الأمراض النفسية المزمنة، بعضهم داسه بلدوزر الانكسار والذل والتوسل فى رحلة الدكتوراه، وبعضهم ندهته ندّاهة الخليج فصار خزانة بنكنوت ومسخ بشر، والبعض قد نصب نفسه نصف إلهاً بدون أى عطايا علمية أو منح أخلاقية، د. الشربينى هو النموذج الوحيد الذى يحارب طواحين الهواء ويفشل، فتسونامى لا توقفها أبداً عقلة أصبع! هناك الطفلة سعاد أيضاً، والتى تحمل نفس اسم البطلة الطبيبة الشابة، وكأن المؤلف يقصد أن ما حدث من اغتصاب للطفلة سعاد هو ترجمة لما حدث للطبيبة سعاد، ولكنه كتب بمفردات أخرى تحمل مصطلحات علمية «شيك». هذه الطفلة التى سلمتها أمها لعشيقها لأنها كانت فى عذر شرعى يمنعها من ممارسة الجنس مع عشيقها، هتكها العشيق جسداً وروحاً حتى أنقذها د. الشربينى هو وزوجته المجرية التى تطل على المجتمع المصرى من نافذة حيادية فتشرحه ربما أفضل كثيراً من أبناء المحروسة، كلما توغلت فى أحراش الرواية يصيبك الاندهاش ويلفك الرعب وتتساءل منزعجاً: لماذا كل هذا التربص بفتاة صغيرة شاطرة وممتازة بشهادة الجميع فى تخصصها؟! لماذا كل هذه الرغبة فى الافتراس والتمزيق والتنكيل حتى الثمالة؟! بداية من حرمانها من الامتحان واتهامها بسرقة الماجستير بعد الموافقة عليه إلى اتهامها فى أخلاقها وشرفها من خلال إثارة فتنة علاقة بينها وبين زميلها الطبيب المسيحى، حتى محاولة استفزازها بخلع ملابس العمليات من أستاذها لإجبارها على الاعتراف بأن هذا المجال ليس مجالها وأنها لو أصرت عليه فعليها أن تحتمل خدش خصوصيتها والتعدى على كرامتها! هذه العدوانية الدفينة هى خليط عجيب من الرغبة فيها وكراهية تميزها وتفوقها واليقين من الفشل فى الوصول إليها، مركب معقد تشكّل على هيئة هذه المحكمة الفاشية التى تتلظى شوقاً إلى الأنثى فيها وتتميز غيظاً من جرأتها على اقتحام عالم الذكور السرى الفحل المقدس. رواية «الكتابة بالمشرط» هى لقطات من جراحة كبرى فى جسد وروح وطن من المخ حتى المصارين، مجتمع مسجى عريان مكشوف العورة على طاولة عمليات، دخله د. إيمان يحيى وسلط عليه الكشاف فجأة وبقوة فإذا بنا نرى مسخاً مشوهاً يذكرنا بقصة «كافكا» الشهيرة، أدخلنا د. إيمان جميعاً إلى غرفة العمليات بدون تعقيم، فاكتشفنا أننا كنا نعيش فى وهم أن هذا الجسد جميل ساكن لطيف، ولم نعرف قط أن كل هذه الصفات المبهرة هى بفضل طبيب التخدير الذى يخاف أن يوقظ الجثة وأن يحرك المسخ.