عندما يحاول شخص أن يناقش بالعقل مفهوم السنة، ويقول إنه ليس فريضة أن نمارس الطب والزراعة وخطط الحرب والاقتصاد، كما مارسها الرسول، أو نلبس نفس الملابس التى ارتداها أو ننام أو نأكل بنفس الطريقة، فإنه يقابل بعاصفة التكفير والمروق وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة ومواجهته بالآية التى تقول: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى»، برغم أن الرسول قد قال إننا أعلم وأدرى بأمور دنيانا وذلك فى حادث تأبير النخل الذى تراجع فيه الرسول عن نصيحته، وترك أصحاب النخل يتصرفون حسب خبراتهم، وبرغم أنه كان دائماً يؤكد صفته البشرية ويكرر قوله إنما أنا بشر، وبرغم أن الصحابة كانوا يسألونه: «أهو الوحى، أم الرأى؟» دلالة على أن هناك حالتين للنبى، الحالة البشرية الغالبة عليه معظم الوقت وحالة الوحى فى الأوقات الأخرى، وهى الأقل عند نزول آيات القرآن، كان الصحابة يسألونه هذا السؤال لضمان أن المناقشة بعد ذلك مع الرسول حرة، فيها تبادل للرأى ومقارعة بالحجة، فعند مناقشة خطة حربية كحفر الخندق مثلاً، مسموح للصحابى أن يقترح ويجادل ويعطى رأياً مخالفاً دون أدنى حرج أو اتهام بأنه يخالف الوحى، وعند مناقشة سلوك سياسى كالتعامل مع الأسرى على سبيل المثال، فمسموح لصحابى مثل عمر بن الخطاب أن يقترح رأياً مخالفاً للرسول، بل ويأتى القرآن مؤيداً لرأى عمر بن الخطاب!!، كل ما سبق له دلالات لكل ذى عقل وهذه الدلالات لا تستفز إلا عبدة أصنام النقل. كان لا بد أن نفض الاشتباك بين ما سبق ذكره من أحداث وأدلة على أن ليس كل ما يفعله الرسول من تصرفات هو وحى منزل، وبين الآيتين: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى»، وجدنا ضالتنا عند د. عبدالمنعم النمر فى تفسير ما يراه البعض تناقضاً وهو ليس بتناقض، فقد كتب الشيخ الجليل فى كتابه المرجع العظيم «الاجتهاد» فى صفحتى ٣٨ و٣٩ تحت عنوان: هل أحاديث الرسول كلها عن وحى قائلاً: «بعض العلماء قالوا بهذا مستظلين أو مستدلين بقوله تعالى مدافعاً عن رسوله (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)، وهى الآيات الأولى من سورة النجم واعتبروا النطق عاماً، فهو لا ينطق ولا يقول قولاً إلا عن وحى يوحى إليه ومثله الفعل»، ويؤكد د. النمر أنه استناد خاطئ غفلوا فيه عن سياق الآية وسبب نزولها، فالآيات «مسوقة للرد على المشركين الذين ادعوا أن محمداً يكذب ويفترى ويؤلف القرآن، لذلك حين أراد الله نفى اتهامهم له بالافتراء فى القرآن، قال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، فهو صاحبكم منذ الشباب ولم تجربوا عليه كذباً قط، والقرآن وحى من عند الله، فهذه الآية وما قبلها واردة فى شأن نطقه بالقرآن خاصة، لا بكل ما ينطق به، كما تدل الوقائع الكثيرة فى حياته، والتى اجتهد فيها برأيه وثبت أنها لا تتفق مع المصلحة بعدها مثل عدم تسعير السلع وغيرها». لا تبحثوا فى تفاسير النصوص عن قيودكم وأغلالكم، ولا تحتفوا بالقمع وغياب الحرية ولا تتظاهروا من أجل تعطيل الفكر ونفى العقل، ديننا دين العقل فلا تسجنوه فى زنزانة بديهياتكم المغلوطة.